3 - غيب المستقبل:
إخبار عن حوادث ستقع في مستقبل قريب أو بعيد، ولا سيّما القريبة منها كانت دلائل على صدق النبوّة، وأمّا البعيدة منها فهي ما ينتظر دورها والزمن كفيل بإظهار ذلك للأجيال، الأمر الذي لا يمكن البتّ بوقوعه فيما يأتي لسوى علّام الغيوب.
من ذلك، التحدّي بالقرآن بالنسبة إلى أجيال قادمة، ممّا يجعل القطع في مثله دليلاً على تداوم الإعجاز من ناحية التحدّي عبر الأيّام. قال تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا...) «1».
فهذه القاطعية في عدم إمكان المعارضة مدى الأجيال لدليل قاطع على صدق الرسالة، وأنّه من كلامه تعالى العالم بما كان وما يكون.
الانسان مهما بلغ من قدرة على الكمال والعلم والأدب، فإنّه إن أمكنه التحدّي مع أبناء زمانه - حيث يعرف مدى قابلياتهم - فإنّه عاجز عن إمكان معرفة مقدرة ذوي الفضائل في مستقبل الأيّام. قال تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) «2».
ومن ذلك، إخباره القاطع بظهور الإسلام وغلبة الدين على الإلحاد غلبة ظاهرة، وأنّ الإسلام يعلو وما يعلى عليه. (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً) «3». (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) «4».
(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) «5».
ففي هذه الآيات الثلاث وعد حتم بظهور الإسلام، وغلبته على الكفر والإلحاد، رغم معارضة المناوئين الألدّاء، وهو إخبار غيبيّ عن مستقبل قادم، وقد تجلّت الحقيقة بصدق مقام الرسالة العامّة مدى القرون والأعوام.
وفي قوله «على الدين كلّه» دلالة واضحة على سطوة الإسلام على سائر الأديان الراهنة في أرجاء الأرض، إمّا ظهورًا بالغلبة والإبادة، أو بسطوع البرهان القاطع. فقد (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) «6».
ولعلّ في ذلك إلماعة إلى ظهور دولة الحقّ، على يد مهديّ آل محمّد عجّل اللّه فرجه، والتي تملأ بها الأرض قسطًا وعدلًا بعد ما ملئت ظلمًا وجورًا، اللّهمّ عجّل فرجه وسهّل مخرجه «7».
ومن ذلك ما توعّد القرآن أناسًا معيّنين معروفين وحدّد مصيرهم في هذه الحياة إلى شقاء وفي الآخرة شمول عذاب عظيم، وأنّهم سوف يموتون على الكفر ويخلدون في نار جهنّم داخرين.
قال تعالى بشأن أبي لهب: (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ * سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) «8».
وقال بشأن الوليد بن المغيرة: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) «9».
وبشأن أبي جهل: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى * عَبْداً إِذا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى * كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ * ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) «10».
فلو لم يكن ذلك من علّام الغيوب - المحيط بالماضي والحال والمستقبل - لما صحّ ذلك في ما أخبر به. بل لما كان من عاقل البشر أن يضع مصير دعوته على شيء معيّن يحتمل خلافه. فلو كان آمن واحد من هؤلاء الثلاثة الذين دمغهم القرآن بالكفر والشقاق المخلّد ذكره في زمرة الأشقياء لانطفأت شعلة الإسلام وقامت الحجّة على القرآن ومن جاء به. مثلاً لو آمن أبو لهب لما كان لقوله تعالى: (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) منصرف ولا واقع مفهوم، ولأصبحت هذه الآية - مثلاً - في واد والواقع في واد آخر.
قال الدكتور مصطفى مسلم: وكيف كان محمّد صلّى اللّه عليه وآله يقابل الناس بها، وقد أصبح أبو لهب من الصحابة كعمر بن الخطّاب وأحزابه من الّذين كان لهم موقف معاد للإسلام قبل أن يدخلوا فيه «11».
هذه معجزة القرآن الباهرة، وأيّ معجزة أبهر وأقهر من أمر لا يكلّف صاحبه أكثر من كلمة يقولها بلسانه، فيبطل بها قول محمّد صلّى اللّه عليه وآله ويفسد أمره جميعه، ثمّ لا يقول تلك الكلمة، ولا تسمح له الحياة أن يقولها. فقد عاجلته المنيّة قبل يوم الفتح الذي دخلت فيه قريش كلّها الإسلام واعتنقته رغم أنوفها. فربّما كان مصير أبي جهل وأبي لهب والوليد مصير سائر صناديد قريش لو عاشوا ذلك اليوم. فلو كان لكان إسلامهم إذ ذاك هدمًا للاسلام بتقويض أكبر دعامة له والعياذ باللّه.
أفلا يدلّ ذلك جليًّا أنّ القرآن كلامه تعالى، كلام من خلق الموت والحياة، والذي بيده الآجال، ومصير كلّ شيء بيده، ومآل كلّ أمر إليه؟! وهو الذي ضمن حفظ دينه وكتابه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) «12». (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) «13».
ولو ذهبنا نتتبّع أخبار القرآن الغيبية لطال بنا المسير، وإنّما نشير إلى جملة من الآيات الكريمة في هذا الشأن: قال تعالى بشأن المشركين يوم كانوا على ذروة العزّة والشقاق وكانوا ذوي قدرة واتّفاق، فأخبر عن تفرّقهم وتبدّد جمعهم وهزيمتهم تجاه شوكة الإسلام. (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) «14».
وهكذا أخبر عن ظهور الدعوة وغلبتها على الكفر والشقاق وانهزام المناوئين، أخبر بذلك في بكرتها إبّان إعلان الدعوة بمكّة: (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) «15».
وعلى غرارها جاءت الآية الأخرى - في نهاية أمره بالمدينة بعد منصرفه من حجّة الوداع: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) «16». نزلت بغدير خمّ عند أمره صلّى اللّه عليه وآله بنصب علي عليه السّلام وليًّا على المؤمنين.
وآيات حفظ القرآن عن الضياع والإهمال وعن تناوش أيدي الاعتداء والمبطلين، لدليل قاطع على كونه معجزة قاهرة وآية باهرة: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) «17». (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) «18». (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) «19». (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) «20». (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) «21».
والآيات من هذا القبيل كثير ضمنت الخلود لهذا الدين والبقاء لشريعة الإسلام مع الأبدية، وهكذا الوعد بالنصر المحتوم: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) «22». (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً) «23».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البقرة: 23 و 24.
(2) الإسراء: 88.
(3) الفتح: 28.
(4) الصف: 8 و 9.
(5) التوبة: 32 و 33.
(6) الإسراء: 81.
(7) راجع مجمع البيان للطبرسي: ج 9 ص 127.
(8) المسد: 1 - 5.
(9) المدّثّر: 11 - 26.
(10) العلق: 9 - 18.
(11) انظر مباحث في إعجاز القرآن ص 247 - 265 ط جدّة.
(12) الحجر: 9.
(13) يونس: 37.
(14) القمر: 44 - 46.
(15) الحجر: 94 - 99.
(16) المائدة: 67.
(17) الحجر: 9.
(18) فصّلت: 41 و 42.
(19) القيامة: 17.
(20) الحجّ: 52.
(21) الأنبياء: 18.
(22) غافر: 51.
(23) الفتح: 1 - 3.
الشيخ محمد صنقور
السيد علي عباس الموسوي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد جعفر مرتضى
عدنان الحاجي
د. سيد جاسم العلوي
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشهيد مرتضى مطهري
حيدر حب الله
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
عبدالله طاهر المعيبد
حبيب المعاتيق
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
امتناع الرؤية البصريَّة وقوله تعالى:{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}
بمَ ينتصر الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف؟
(بحيرة القنادس) المجموعة القصصيّة التّاسعة للكاتب جواد المرهون
اختتام حملة التّبرّع بالدّم (ومن أحياها 23)
دقائق في القرآن هي روائع في التعبير (4)
سياسة القتال (1)
المواد الكيميائية في أدمغتنا وتأثيرها في سلوكنا (2)
المشكلة الاستقرائية على ضوء المذهب التجريبي والمذهب الذاتي في المعرفة (2)
ما هي حقيقة لقاء الله؟
علم التفسير وطبقات المفسرين