قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد منير الخباز القطيفي
عن الكاتب :
رجل دين وخطيب مفكر وكاتب، يعد من أبرز علماء القطيف ومن خطبائها، ومن أبرز أساتذة الدراسات العليا (بحث الخارج) في الفقه والأصول في حوزة قم المقدسة، ولد عام 1384هـ (حوالي 1964م)، له العديد من المؤلفات.

الشهادة بالمنظور القرآني

هناك عدة آيات تعرضت لعنوان الشهيد والشهداء في القرآن الكريم، وربما يتصوَّر أن الشهيد له معانٍ عديدة في القرآن الكريم.

 

المعنى الأول: أن المراد بالشهيد هو الحاضر

 

كما في قوله عز وجل: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي...﴾، فالشهداء هنا بمعنى الحضور، أي: «هل كنتم حاضرين عندما قال يعقوب لبنيه: ما تعبدون من بعدي؟».

 

المعنى الثاني: المقصود بالشهادة الحجية

 

كما في قوله عز وجل: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا...﴾، أي أن الله اختار لكم موقعًا تكونون فيه حجةً على جميع الأمم، ويكون الرسول صلى الله عليه وآله حجةً عليكم، فالأمة الإسلامية بما تملك من مقوّمات ومواصفات حجةٌ على جميع الأمم، أمةٌ يقتدى بها، أمةٌ يتحذى بها، كما في قوله عز وجل: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ...﴾، والرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله حجةٌ عليكم، مقتدى لكم، قدوة لكم.

 

المعنى الثالث: الشهادة بمعنى الرقابة والإشراف

 

كما في قوله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ...﴾، بمعنى أن دوركم دور الرقابة على أنفسكم، على أمتكم، من حيث رقابة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ...﴾.

 

المعنى الرابع: الشهادة بمعنى أداء ما تحمّل

 

إذا رأى الإنسان واقعة معينة، وأراد أن يؤدي الواقعة كما رآها، فإن هذا الأداء يسمى شهادةً، كما في قوله عز وجل: ﴿...وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا...﴾، ويقول في آية أخرى: ﴿...فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ...﴾.

 

فيقال: الشهادة لها معانٍ في القرآن الكريم، ولم ترد بمعنى واحد، ولكن عند التأمل والتدبر نجد أن الشهادة معناها واحد، الشهادة بمعنى الحضور والوجدان، ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ...﴾، يعني يحضروا، ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ...﴾، يعني من حضر، رأى الهلال وهو حاضر، ليس مسافرًا، الشهادة والشهود بمعنى الحضور، ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ...﴾، العالم الحاضر يسمى شهادة، العالم الذي ليس حاضرًا أمامنا يسمى غيبًا، فالشهادة بمعنى الحضور.

 

معنى الشهادة واحد لا يختلف، إلا أن مصاديق الحضور تختلف، الحضور له مصاديق متعددة، له درجات متعددة، له أمثلة متعددة، وإلا الشهادة معناها واحد وهو الحضور، هناك حضور حسي عبّر عنه القرآن بقوله: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ...﴾ شهداء بمعنى الحضور الحسي.

 

وقد يكون الحضور حضورًا معنويًّا، حضورًا ملكوتيًّا، كما في قوله عز وجل: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ...﴾، الشهادة هنا بمعنى الحضور، لكن الحضور ليس حضورًا حسيًّا، وإنما هو حضور معنوي، أي أن الأمة الإسلامية إذا التزمت بالإسلام وطبقت مبادئ الإسلام كان لها حضور معنوي جذّاب بين الأمم، وهذا الحضور المعنوي الجذّاب عبّر عنه القرآن بالشهادة.

 

وقد يكون الحضور حضورًا ذكريًّا علميًّا، كما في الشاهد الذي يشهد واقعة معينة، ثم يتحملها في عقله، ثم يدلي بها أمام القضاء، فإن الشهادة هنا بمعنى الحضور، إلا أن الحضور هنا حضور ذهني، حضور علمي، الشهادة بمعنى واحد وهو الحضور، مصاديق الحضور، أمثلة الحضور، تجليات الحضور، تختلف من مقام إلى آخر، ومن موقع إلى آخر.

 

إذا جئنا لقوله عز وجل: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا﴾، ما معنى الشهداء هنا في هذه الآية المباركة؟ كيف نفهم الحضور في هذه الآية المباركة؟ هذه الآية المباركة تقول: من يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم، ليس منهم، معهم وليس منهم، المطيع ليس من الشهداء، المطيع ليس من الأنبياء، المطيع معهم لا أنهم منهم، أي أن الله يوم القيامة يعطيه مقامًا مع الأنبياء والشهداء والصدّيقين، ولذلك قالت الآية في آخرها: ﴿...وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا﴾، هو ليس منهم، وإنما هو رفيق لهم، المطيع لله ولرسوله رفيقٌ مع هؤلاء الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وليس منهم.

 

من هم هؤلاء الذين أنعم الله عليهم؟ القرآن يفسّر بعضه بعضًا، انظر إلى سورة الفاتحة التي نقرؤها: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾، هؤلاء الذين أنعم الله عليهم هم أصحاب الصراط المستقيم، فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم، والذين أنعم الله عليهم هم أصحاب الصراط المستقيم، أنعم الله بأثمن نعمة ألا وهي نعمة الاستقامة، من حظي بنعمة الاستفامة فقد حظي بأفضل نعمة، ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ...﴾، ﴿...فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ...﴾ أنعم الله عليهم بأن جعلهم أصحاب الصراط المستقيم.

 

وأصحاب الصراط المستقيم يختلفون عن المطيع، المطيع لله ولرسوله استقامته اكتسابية عرضية، أما أصحاب الصراط المستقيم فاستقامتهم ذاتية طبعية، أي أن هؤلاء الصفوة هم ذو استقامة بجبلتهم، بطبعهم، بفطرتهم، هم منبع الاستقامة، وإليهم ترجع الاستقامة، لا أن استقامتهم متكلفة، لا أن استقامتهم مكتسبة، نحن استقامتنا متكلفة، استقامتنا مكتسبة، أما أصحاب الصراط المستقيم فاستقامتهم ذاتية جبلية فطرية لهم، كما قال تبارك وتعالى في آية أخرى: ﴿...أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾، هناك من له هداية جبلية، وهو المستقيم بطبعه، وهناك من هدايته مكتسبة.

 

إذن، أصحاب الصراط المستقيم هم الذين أنعم الله عليهم، ثم عدّدهم: النبيون الذين أوحي إليهم، ﴿...مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ...﴾، الصديق هو الوصي، الأنبياء فالأوصياء، الوصي علي بن أبي طالب عليه السلام هو الصدّيق، الصدّيق هو منبع الصدق، أي أنه المقياس في الصدق، أنا مثلًا يقال لي صادق إذا صدقت في قولي وعملي، أما الصدّيق فهو الميزان في الصدق، إذا أردنا أن نقيس شخصًا هل هو صادق أم لا نعرض أعماله على الصدّيق، فالصدّيق هو الميزان، هو المقياس في الصدق، غيره يقاس عليه، وهو لا يقاس على غيره، ولذلك ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله أنه قال: ”علي مع الحق، والحق مع علي، يدور معه حيثما دار“، هو الميزان، غيره يقاس عليه، هو لا يقاس على أحد.

 

﴿...وَالشُّهَدَاءِ...﴾، من هم الشهداء؟ ليس المقصود بالشهداء من قتلوا في سبيل الله، بل المقصود بالشهداء من لهم مقام الشهادة على أعمال الخلائق، هناك قسم من الناس لهم مقام الشهادة على أعمال الخلائق، يرقبون أعمال الخلائق، ينظرون أعمال الخلائق، يراقبون أعمال الخلائق، قالت عنهم الآية المباركة: ﴿...إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ﴾، المقربون هم الشهداء، لأنهم هم الذين يشهدون كتاب الأعمال، كتاب أعمال الخلائق كلهم، وقال في آية أخرى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ...﴾، فالمؤمنون الذين يرون الأعمال رؤيةً ملكوتيةً حقيقيةً هم الشهداء في هذه الآية المباركة.

 

﴿...وَالصَّالِحِينَ...﴾، الصالحون من أعطوا الصلاح بفطرتهم وجبلتهم، ”السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين“، ﴿...وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا﴾ هؤلاء هم الذين أنعم الله عليهم، أصحاب الاستقامة الفطرية، وقد ورد عن أبي جعفر الباقر عليه السلام: ”النبيون: محمد، والصدّيقون: علي، والشهداء: حمزة وجعفر «رضوان الله تعالى عليهما» والحسن والحسين، والصالحون: الأئمة الطاهرون من ذرية الحسين عليه السلام“، وهذا ما يعبّر عنه بالتفسير المصداقي، يعني تفسير الآية بمصاديق حية واضحة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد