قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عبد الأعلى السبزواري
عن الكاتب :
السيد عبد الأعلى السبزواري، من أكابر علماء الشيعة الإمامية، ولد في الثامن عشر من ذي الحجّة ١٣٢٨ﻫـ في سبزوار بإيران، بدأ دراسته للعلوم الدينية في مسقط رأسه، ثمّ سافر إلى مشهد، ثمّ انتقل إلى النجف الأشرف التي استقرّ بها حتّى وافاه الأجل، مشغولاً بالتدريس والتأليف وأداء واجباته الدينية. من مؤلفاته: مواهب الرحمن في تفسير القرآن، تهذيب الأصول، لباب المعارف، جامع الأحكام الشرعية، وسوى ذلك الكثير. تُوفي في 27 صفر سنة 1414 بالنجف الأشرف، وشيع جثمانه من حرم أمير المؤمنين (ع)، ودفن بمسجده الذي كان يقيم فيه صلاته ويلقي فيه بحثه ودرسه.

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (1)

هذه الآية المباركة (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) تشتمل على كثير من المعارف الإلهية لا سيّما الصفات الراجعة إلى ذات الباري عزّ وجل وفي اختيار صفتي الرحمن الرحيم ما فيه من البشارة للإنسان من كونه مورد رحمته وعطفه تعالى مهما تعددت أسباب الشر وقويت، وفيها إرشاد إلى تعليم الإنسان لتوخّي الرحمة والمودة في أفعاله وجعل نفسه من مظاهر رحمته تعالى ليعرف أنّه مؤمن باللّه تعالى، وأن لا يعتمد على نفسه مهما بلغ من الكمال لأنّه المحتاج بعد، بل لا بد له من إيكال أمره إلى الغني المطلق.

 

التفسير

 

قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ. الـ (باء) للاستعانة، لأنّ الإنسان مفتقر بذاته، والمحتاج المطلق لا بد أن يستعين في جميع شؤونه بالغنيّ المطلق الذي هو اللّه تعالى، فالممكنات في ذاتها وعوارضها وحدوثها وبقائها محتاجة إليه فهي بلسان الحال تستعين به تعالى، فقدّرت الاستعانة في المقال تطبيقا بين لساني الحال والمقال.

 

وجعل المتعلّق كل ما يفعل بعد البسملة وإن كان صحيحًا لا بأس به ولكن كون المتعلق هو الاستعانة يدل عليه أيضًا بالملازمة، فإنّ الاستعانة المطلقة به تعالى تستلزم الاستعانة في كل فعل يؤتى به خصوصًا ما يؤتى به بعد البسملة، كما أنّ كون المتعلّق هو الفعل الخاص مثل القراءة في المقام يستلزم تحقق الاستعانة المطلقة أيضًا، إذ المراد القراءة مستعينًا به لا القراءة المطلقة ولو بلا استعانة ورعاية منه تعالى، فيكون الفرق بينهما كالفرق بين الطبيعي والفرد في أنّ تحقق كل منهما خارجًا يستلزم تحقق الآخر بل هو عينه.

 

(اسم): أصله من السمو - مخففة - بمعنى الرفعة ومنه السماء، ويصح أن يكون اشتقاقه من السمة بمعنى العلامة. والهاء عوض الواو فيكون أصله الوسم، فالوسم والوسام والوسامة بمعنى العلامة. والهمزة: همزة وصل على التقديرين، ويصح الاشتقاق من كل منهما، لأنّ التبديل والتغيير في حروف الكلمة جائز ما لم يضر بالمدلول إلّا أن يكون اللفظ بخصوص شخصه سماعيًّا؛ ومن وقوع التغيير والتبديل في هذا اللفظ في الاشتقاقات الصحيحة وسهولة لغة العرب نستفيد صحة ما تقدم.

 

ويصح رجوع أحد المعنيين إلى الآخر في جامع قريب: وهو البروز والظهور، لأنّ الرفعة نحو علامة، والعلامة نحو رفعة لديها، وهما يستلزمان البروز والظهور. ودأب اللغويون والأدباء وتبعهم المفسرون على جعل المصاديق المتعددة مع وجود جامع قريب من مختلف المعنى، مكثرين بذلك من المعاني غافلين عن الأصل الذي يرجع الكل إليه، فكان الأجدر بهم بذل الجهد في بيان الجامع القريب والأصل الذي يتفرع منه، حتّى يصير بذلك علم اللغة أنفع مما هو عليه، ولذهب موضوع المشترك اللفظي وغيره من التفاصيل إلّا في موارد نادرة. ولعل سبب إعراضهم عن ذلك هو أنّ ذكر اللفظ وبيان موارد استعمالاته سهل يسير بخلاف الفحص عن الجامع وتفريع ألفاظ منه.

 

ثم إنّ لفظ الاسم: اسم جنس لأسماء غير محصورة تحدث وتزول على مر العصور في ألفاظ ولهجات غير متناهية.، وهذا من اللايتناهى الذي اتفق الفلاسفة على صحته واصطلح القدماء منهم عليه بـ «اللاتناهي اللايقفي» ولشرحه موضع آخر...

 

ولفظ الاسم هنا واسطة محضة لاسم اللّه تبارك وتعالى لا أن يكون له موضوعية خاصة فيكون مما به ينظر لا مما إليه ينظر كما هو الشأن في جميع الأسماء إلّا أنّ فيها واسطة لتعرّف المعنى وهنا واسطة لتعرف اللفظ أي «اللّه».

 

وعلى أية حال سواء كان الاسم من الوسم واقعًا بمعنى العلامة، أو من السمو بمعنى الرفعة، ففي ذكر البسملة يكون إظهار لإضافة العبد نفسه إليه تعالى إضافة تشريفية بذكر اسمه تعالى، ورفعة لمقام العبد به، وذكر الاسم في غيره تعالى علامة للمعنى المراد وإخراجه عن الخفاء إلى البروز والظهور.

 

ولا ريب في أنّ الاسم عرض قائم بالغير سواء أريد لفظ - اس م - أو مدلوله اللفظي - كلفظ [كتاب] - مثلاً، وما أطيل فيه قديمًا من أنّ الاسم عين المسمى أو غيره قد ظهر في الفلسفة المتعالية بطلانه.

 

وفي تخلل لفظ الاسم بين حرف [الباء] ولفظ الجلالة إشارة إلى أنّ ما هو حد الإدراك للإنسان إنّما هو ذكر اسمه تعالى والاعتقاد به مشيرًا من حيث الإضافة إلى الذات لا أن يحوم أحد حول كشف الحقيقة والذات فإنّها لن تدرك لغيره تعالى. وأما قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [سورة العلق، الآية: 2] مخاطبًا نبيّه (صلّى اللّه عليه وآله) حيث ذكر الاسم فيه أيضًا فهو لأجل تعليم الغير لا بالنسبة إلى مقام النبي الجامع من الحقائق كنوزها والحاوي لدقائق رموزها.

 

ثم إنّه قد ذكرت هذه الكلمة - اسم - في القرآن الكريم مفردة ومجموعة، مضافة إلى اللّه تعالى، وإلى الرب، وإلى الضمير الراجع إليه تعالى، وموصوفة. فقال تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [سورة الأعراف: الآية: 180]. وفي الكل مقرونة بالتعظيم والتجليل، وقد كثرت استعمالات هذه الكلمة في الآثار الواردة عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه وآله) وأئمة الهدى (عليهم السّلام) في دعواتهم مع اللّه تعالى: باسمك العظيم واسمك الأعظم وباسمك الأعظم الأعظم. والمراد بالعظيم: ما أذن اللّه تعالى لخلقه أن يدعوه به، كجميع أسمائه تعالى. والمراد بالأعظم: ما هو مستور عن خلقه ولكنّه تعالى أذن لبعض أحبائه أن يدعوه به، وأما الأعظم الأعظم فهو: ما استأثره لنفسه ولم يظهره لأحد غيره.

 

اللّه: أجل لفظ في الممكنات كلّها، لأعظم معنى في الموجودات جميعها. بهت في عذوبة لفظه كل سالك مجذوب، وتحيّر في عظمة معناه جميع أرباب القلوب، تتدفق المحبة والرأفة عن الاسم فكيف بالمعنى، فكأنّ نفس المعنى يتجلّى فيه ويقول: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) [سورة طه، الآية: 14] جمعت فيه من الكمالات حقائقها ومن الألطاف والعنايات دقائقها ورقائقها، تطلبه الملائكة الكروبيون كما يطلبه أهل الأرضين والكل لا يصل إليه، ظهر لغيره بالآثار وخفي عن الجميع بالذات، فما أعظم شأنه فقد عجزت العقول - وإن قويت فطنتها - عن درك أفعاله فضلاً عن صفاته فكيف بذاته، فكلّما زاد الإنسان تأملا فيه زيد تحيرًا وجهلاً. فسبحان الذي اكتفى بالتحيّر في الذات والصفات والأفعال عن التعمق فيها لعلمه الأزلي بعدم قدرة ما سواه على ذلك أو لعدم لياقة جملة من العقول به.

 

ثم إنه قد ذكر أهل اللغة أنّ [اللّه] اسم جنس للواجب بالذات ولكنه منحصر في الفرد كالشمس والقمر ونحوهما وتبعهم فيه جمع من المفسرين. وهو غير صحيح عقلاً لأن المتفرد بذاته في جميع شؤونه وجهاته والبسيط فوق ما نتعقله من معنى البساطة كيف يقال في اللفظ المختص به إنه اسم جنس (عام)؟! وقد ثبت في الفلسفة الإلهية المتعالية أن الكلية والجزئية والجنسية ونحوها من شؤون المفاهيم الممكنة وذاته الأقدس فوق ذلك مطلقًا فلا يصح إطلاق اسم الجنس على اللفظ المختص به تعالى.

 

نعم لو أراد القائل بأنّه اسم جنس على نحو الجنسية الوجودية أي: السعة الوجودية بالعنوان المشير إلى الذات لا الجنسية الماهوية لكان له وجه لطيف ولكنهم بمعزل عن ذلك. نعم ربما يطلق الإله على غيره تعالى إطلاقًا اعتقاديًّا باطًلا، كقول فرعون: (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [سورة القصص، الآية: 38]، وقوله تعالى: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) [سورة ص، آية: 5].

 

كما أن القول بأن (اللّه) اسم جنس باطل من جهة العلوم الأدبية أيضًا لعدم وقوعه صفة ووقوعه موصوفًا دائمًا فلا يصح أن يكون اسم جنس بل هو علم مختص لواجب الوجود بالذات المستجمع لجميع الصفات الكمالية لظهور آثار العلمية فيه على ما هو المعروف بين الأدباء.

 

ونظير ذلك ما ذكروا أنه مشتق من وله بمعنى تحير، أو من أله بمعنى تعبد. لتعبد الكل له تكوينًا أو اختيارًا، وتحيرهم فيه.

 

وهذا أيضا مردود أولاً بأن التحير والتعبد عنوان وصفي فلا يصح أن يؤخذ في ما هو اسم للذات المتصف بجميع صفات الجمال والكمال والجلال. وثانيًا بما رواه ابن راشد في الصحيح عن موسى بن جعفر (عليه السلام): «سئل عن معنى اللّه تعالى فقال (عليه السلام): استولى على ما دق وجل» فإن الحديث ظاهر في أن لفظ (اللّه) غير مشتق من أله ووله بل هو اسم جامد بمعنى القيّومية المطلقة على ما سواه.

 

فالحق ما نسب إلى الخليل اللغوي وغيره من أن لفظ الجلالة بسيط وليس بمشتق، واللام جزء اللفظ، وأنّ الواضع له هو اللّه تعالى بل جميع أسمائه عرفت بتعليمه عزّ وجل فهو المعرّف فيها والمعرّف بها ويشهد له قول الصادق (عليه السّلام): «اعرفوا اللّه باللّه». إن قلت: إنّ كلام اللغويين في مفهوم (اللّه) من حيث إنه مفهوم لا الذات الأقدس إذا لا إشكال في صحة قولهم في الاشتقاق وكونه من اسم الجنس.

 

(قلت): قولهم إنما يصح في المفاهيم الممكنة وأما إذا كان الموضوع واحدًا وواجبًا بالذات يكون الإطلاق عليه مع إطلاقه على الممكن كالاشتراك اللفظي، كما ذهب إليه جمع من الفلاسفة في أسمائه تعالى فيكون إطلاقه عليه تعالى بنحو العلمية وفي الممكن بنحو اسم الجنس، كما في لفظ المدينة مثلاً فإنها علم لمدينة الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) واسم جنس لسائر المدن ولكن في اسمه تعالى لا يجوز إطلاقه على غيره لاختصاصه به، كما في قوله تعالى: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) [سورة طه، الآية: 14] ويستفاد ذلك من كلام العرب قبل الإسلام أيضًا. هذا ما يتعلق بلفظ الجلالة من حيث هو.

 

وأما معناه فلا ريب في أنه مما تحير فيه العقول مع اعتراف الجميع بوجوده ودأب القرآن وما ورد في الشريعة التعبير عنه تعالى بالأسماء الحسنى (الصفات) التي ذكرت في القرآن من دون تحديد بالنسبة إلى الذات بل ورد في الأثر عن الأئمة (عليهم السّلام): «يا من لا يعلم ما هو ولا كيف هو ولا أين هو ولا حيث هو إلّا ه »، فأثبتوا له تعالى أصل الهوية ولكن حصروا العلم بالهوية به تعالى. نعم ورد في الآثار عنهم (عليهم السّلام) التعبير عنه تعالى: «أنه ذات لا كالذوات وشيء لا كالأشياء»، وعن أبي جعفر (عليه السّلام): «اذكروا من عظمة اللّه ما شئتم ولا تذكروا ذاته فإنكم لا تذكرون منه شيئا إلّا وهو أعظم منه»، وعن الصادق (عليه السّلام): «إنّ اللّه تعالى يقول وإنّ إلى ربك المنتهى فإذا انتهى الكلام إلى اللّه تعالى فأمسكوا».

 

وأما ما ورد عن الفلاسفة المتألهين: إنه الذات الجامع لجميع الكمالات الواقعية والمسلوب عنه جميع النواقص كذلك، وعن العرفاء وبعض محققي الفلسفة الإلهية: أنه الذات المسلوب عنه الإمكان مطلقًا، وعن بعض قدماء اليونان - الذي عبر عنه في كلماتهم بشيخ اليونانيين - أنه ذات فوق الوجود يمكن إرجاع جميع ذلك إلى ما ورد عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) وإن قصرت عبارات بعضهم عن ذلك. وسنعود إلى بعض ما يتعلق بالمقام في المواضع المناسبة إن شاء اللّه تعالى، ولعل عدم تعرض القرآن وسائر الكتب السماوية لحقيقة ذاته الأقدس لوضوحه بالآثار وقصور الممكن مطلقًا عن درك حقيقة ذات الواجب وإنما حده درك الآثار فقط وهو تعالى بيّن ذلك كاملا في كتابه ويتم بذلك الحجة والبيان.

 

وعلى أي تقدير فـ (اللّه) هو الجامع لجميع الأسماء الحسنى التسعة والتسعين أو الثلاثمائة وستين التي من أحصاها دخل الجنّة على ما رواه الفريقان، وهذه الأسماء المباركة منطوية في لفظ الجلالة انطواء الشعاع في نور الشمس مع المسامحة في هذا التشبيه.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد