يغلب على الثوار غير الهاشميين أنهم من اليمن، من عرب الجنوب، وربما كان هذا مؤشرًا إلى أن الذين بايعوا مسلم بن عقيل كان أكثرهم من عرب الجنوب. لقد كانوا - فيما يبدو - يمثلون القسم الأكبر من جمهور الثورة.
ولعل من مؤشرات ذلك أن مسلم بن عقيل تحول - حين جاء عبيد الله بن زياد إلى الكوفة من بيت المختار بن أبي عبيد الثقفي وهو من مضر (عرب الشمال) إلى منزل أحد كبار زعماء عرب الجنوب في الكوفة (هاني بن عروة المرادي).
ولعل من أعظم المؤشرات دلالة على ذلك أيضًا أن عبيد الله بن زياد حين أراد إلقاء القبض على مسلم بن عقيل بعد فشل حركته في الكوفة اختار الجنود الذين أرسلهم لهذه المهمة من عرب الشمال، من قيس، ولم يكن فيهم أحد من عرب الجنوب، من اليمن، على الإطلاق، وإن كان قد جعل عليهم قائدًا من اليمن، هو عبد الرحمن بن الأشعث (1).
وإذا كانت حركة مسلم بن عقيل في الكوفة قد تميزت بهذه الظاهرة اليمنية، فإننا نلاحظ أمرًا عظيم الدلالة بالنسبة إلى الإمام الحسين عندما أعلن رفضه لبيعة يزيد بن معاوية في الحجاز.
فعندما عزم الحسين على الخروج من المدينة إلى مكة، ثم عندما عزم على الخروج من مكة إلى العراق، وفي طريقه إلى العراق، تلقى نصائح من رجال متنوعي العقلية والاتجاهات تجمع على أمر واحد هو أن يتوجه الحسين - بدلاً من العراق - إلى اليمن.
تلقى هذه النصيحة من أخيه محمد بن الحنفية عشية توجهه من المدينة إلى مكة، فقال محمد بن الحنفية للحسين من جملة كلام: (.. تخرج إلى مكة فإن اطمأنت بك الدار بها فذاك الذي نحب، وإن تكن الأخرى خرجت إلى بلاد اليمن، فإنهم أنصار جدك وأبيك وأخيك، وهم أرق وأرأف قلوبًا ، وأوسع الناس بلادًا، وأرجحهم عقولاً..) (2)
وتلقاها من عبد الله بن عباس في مكة، فقد قال له عبد الله في حوار جرى بينهما: (..فإن أبيت إلا أن تخرج فسر إلى اليمن، فإن بها حصونًا وشعابًا، وهي أرض عريضة طويلة، ولأبيك فيها شيعة، وأنت عن الناس في عزلة) (3).
وتلقاها من الطرماح بن عدي الطائي وذلك حين لقيه في عذيب الهجانات وقد جاء دليلاً لأربعة نفر من أهل الكوفة لحقوا بالحسين بعد مقتل مسلم بن عقيل: (4) (..فإن أردت أن تنزل بلدًا يمنعك الله به حتى ترى من رأيك ويستبين لك ما أنت صانع، فسر حتى أنزلك مناع جبلنا الذي يدعى أجأ... فأسير معك حتى أنزلك القرية، ثم نبعث إلى الرجال ممن بأجأ وسلمى من طي، فوالله لا تأتي عليك عشرة أيام حتى تأتيك طي رجالاً وركبانًا) (5).
بل إننا نجد هذه الظاهرة (اليمنية) تستمر إلى ما بعد كربلاء، وبعد يزيد بن معاوية لتنشر ظلها على الأحداث. فقد خلع أهل الكوفة - بعد موت يزيد بن معاوية - ولاية بني أمية وإمارة ابن زياد، وأرادوا أن ينصبوا لهم أميرًا إلى أن ينظروا في أمرهم: (فقال جماعة: عمر بن سعد بن أبي وقاص يصلح لها، فلما هموا بتأميره أقبل نساء من همدان وغيرهن من نساء كهلان والأنصار وربيعة والنخع حتى دخلن المسجد الجامع صارخات باكيات معولات يندبن الحسين ويقلن أما رضي عمر بن سعد بقتل الحسين حتى أراد أن يكون أميرًا علينا على الكوفة، فبكى الناس، وأعرضوا عن عمر. وكان المبرزات في ذلك نساء همدان) (6)
هذه الظاهرة (اليمنية) في الثورة الحسينية تدفعنا إلى الملاحظة التالية، وهي: أن نسبة الزيادة في عرب الجنوب بالنسبة إلى عرب الشمال في القوة الثائرة في كربلاء، وإن كانت محدودة جدًّا، فإنها، مع ذلك، تصلح أن تكون علامة قيمة على أصالة الثورة الحسينية من الناحية العقيدية والمبدئية، فمع أن معاوية منذ اكتشف أن مضر، منحرفة عنه، أخذ يعتمد في دولته على العنصر اليمني، وكذلك من بعده ابنه يزيد، وأمه يمنية من كلب - مع هذا نجد أن نسبة عرب اليمن في الثورة أكبر من نسبة عرب الشمال.
إن الثورة عمل سياسي، وقد كان من الطبيعي جدًّا أن يتم هذا العمل السياسي وفقًا لأصول العمل السياسي التي كانت سائدة في المجتمع آنذاك، وذلك بأن تكون الثورة جمهورها من خلال منطق الصراع القبلي، وأن تتعامل مع هذا الجمهور من خلال هذا المنطق، ولكن ما حدث كان على خلاف ذلك، فقد تكون جمهور الثورة على مهل نتيجة لوعي الواقع على ضوء المبدأ الإسلامي، وقد تعاملت الثورة مع هذا الجمهور من خلال قناعاته العقيدية لا من خلال غرائزه القبلية.
هل يعني هذا أن عرب الشمال كانوا بعيدين عن الثورة؟ من المؤكد أن هذا الاستنتاج لا صحة له على الإطلاق، ومن المؤكد أن عرب الشمال كانوا يكونون من جمهور الثورة عنصرًا كبيرًا، وإن كنا لا نستطيع أن نجد في الثورة ظاهرة (مضرية) أو ظاهرة (عدنانية)، بل نلاحظ أن بعض النصوص يشير إلى دور بارز قامت به بعض عناصر عرب الشمال، وهم القيسيون، في مساندة السلطة لقمع الثورة الحسينية.
نذكر في هذا المجال بما تقدم من أن القوة التي قبضت على مسلم بن عقيل كانت من قيس (6). وثمة نص شعري عظيم القيمة يضيء الموقف القبلي، فهو يبين أن قيسًا هي الغريم الأكبر مسؤولية في قتل الحسين: قال سليمان بن قته المحاربي التابعي (7) من جملة شعر له في رثاء الحسين:
وإن قتيل الطف من آل هاشم
أذل رقاب المسلمين فذلت
وعند غني قطرة من دمائنا
سنجزيهم يومًا بها حيث حلت
إذا افتقرت قيس جبرنا فقيرها
وتقتلنا قيس إذا النعل زلت (8)
فالشاعر في رثائه للحسين يذكر قيسًا (قيس عيلان بن مضر) ويذكر غنيًّا (من غطفان، من قيس عيلان) ويحملهما مسؤولية مقتل الحسين، ويهدد بالانتقام.
لقد كان ثوار كربلاء جمهورًا صغيرًا، بجناحيه من عرب الجنوب وعرب الشمال، ولكنه كان يمثل النخبة، فيجب أن نلاحظ أن كثيرًا من الثائرين لا يمثلون - عدديًّا - أشخاصهم، أو أسرهم، وإنما يمثلون، فيما وراء ذلك، جماعات كبرى من القبائل.
ولأن الثوار يمثلون النخبة فقد كانوا قادرين على السيطرة على الموقف لو قدر للثورة أن تنتصر وتمكنوا من الاستيلاء على الحكم، وكانوا قادرين - إذا لم يتح لهم النصر - كما حدث في الواقع - أن يفجروا طوفانًا من الغضب ضد الحكم المنحرف في قلوب جماهير غفيرة الناس، وأن يضعوهم على طريق الوعي الحقيقي، وأن يجعلوا منهم جمهورًا يغذي الثورات باستمرار، وهذا ما حدث في الواقع.
نقدر أن رجال النظام الأموي قد اكتشفوا هذه الحقيقة، وقرروا أن يواجهوها. وهذا هو ما يفسر لنا الأسلوب الذي اتبعوه في معالجة الثورة وسحقها بشكل وحشي لا تدعو إليه ضرورة عسكرية، ولا تقضي به ضرورة الأمن. فقد اتبعت طريقة شاذة وغير مألوفة في قتل عدد من شخصيات الثائرين في الكوفة.
فقد ضربت عنق مسلم بن عقيل، ثم رمي به من أعلى القصر إلى الأرض فتكسرت عظامه، وضربت عنق هاني بن عروة في السوق بعد أن شد كتافًا، ثم جرّا بأرجلهما في سوق الكوفة (9). وعبد الله بن بقطر رمي به من أعلى القصر فتكسرت عظامه، وبقي به رمق فذبح (10). وقيس بن مسهر الصيداوي أمر عبيد الله بن زياد أن يرمى به من فوق القصر، فرمي به، فتقطع فمات (11).
وفيما بعد، اتبعت طريقة السحق الوحشي الذي لا يبقى ولا يذر بالنسبة إلى جماعة الثوار الصغيرة في كربلاء. فمع أن العدد محدود للغاية حشد له من القوة العسكرية عدد كبير جدًّا (12) ووضع العراق كلّه في حالة تأهب قصوى، وحكم العراق كله حكمًا عرفيًّا. لقد أرادت السلطة أن تحترز من وقوع أي خطأ يجعل أحدًا من هذه العناصر القيادية الخطرة يتسرب من قبضتها.
ثم كانت إجراءات قمع الثورة وسحقها تشتمل على تصرفات شاذة لا تقضي بها أية ضرورة عسكرية. لقد حوصر الثائرون، وحيل بينهم وبين أن تصل إليهم أية معونة، وعذبوا مع أطفالهم ونسائهم وحيواناتهم بالعطش، ثم قتلوا، ثم رضت أجسادهم بحوافر الخيل، ثم قطعت رؤوس العناصر البارزة في المجتمع الإسلامي من الثوار، ثم سبيت نساؤهم، والهاشميات منهم بوجه خاص.
لماذا كل هذه الوحشية التي لا لزوم لها على الاطلاق؟
لقد أرادت السلطة أن تجعل هؤلاء الثائرين عبرة لغيرهم، وأرادت أن تحدث تأثيرًا نفسيًّا محطمًا في العناصر (الشاذة) في القبائل، لقد أرادت أنت تحطم المناعة النفسية في البؤر الثورية في كل العرب، في عرب اليمن - وهم الذين كبرت على السلطة ثورتهم وهم المقربون من الدولة وأهل السلطان - وفي عرب الشمال.
إن الثائرين لم يتصرفوا بروح قبيلة، ولا بعقلية قبلية، لقد تصرفوا بوحي من عقيدتهم الإسلامية، وبذلك أفلتوا من الطوق الذي تستطيع السلطة أن تقودهم به. ربما لم يكن في نية السلطة أن تقسو إلى هذا الحد الوحشي (هذا إذا صدقنا بعض الروايات التي تتحدث عن أن عبيد الله بن زياد قبل، لبعض الوقت، أن يفك الحصار، ويسمح للحسين وصحبه بالتوجه إلى بعض البلاد، ويعود الأمر شورى بين المسلمين وهي روايات نشك في صحتها).
لقد تصرفت السلطة مع الثوار بوحشية تضرب بها الأمثال، فقد اكتشفت أن الثورة اجتذبت بسهولة عناصر قيادية كان يجب أن تكون موالية (زهير بن القين البجلي، وأمثاله)، لأنها من قمة الهرم الاجتماعي، من (الأشراف) رؤساء القبائل، وأحس الزعماء القبليون التقليديون أن سلطانهم على قبائلهم سيذهب إذا تعاظم هذا التيار وكتب له النصر، فتعاونوا مع السلطة بإخلاص كبير، وحماس شديد، حفظًا لمصالحهم في السلطان والزعامة.
إن الأسلوب الذي اتبعته السلطة مع الثوار لم تدع إليه ضرورة عسكرية ، لقد كان عملاً سياسيًّا يراد منه جعل الثائرين عبرة لغيرهم، وهو يشيع - في الوقت نفسه - روح الانتقام والحقد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الطبري: 5 / 373.
(2) الخوارزمي: مقتل الحسين: 1 / 187 - 188.
(3) الطبري: 5 / 383 - 384، والخوارزمي: مقتل الحسين: 1 / 216.
(4) الأربعة هم جابر بن الحارث (جنادة بن الحارث) السلماني، وعمرو بن خالد الصيداوي، ومجمع بن عبد الله العائذي، وعائذ بن مجمع.
(5) الطبري: 5 / 405 - 406، والخوارزمي: مقتل الحسين: 1 / 238.
(6) الطبري: 5 / 373، وجاء في النص (... وإنما كره (ابن زياد) أن يبعث معه (مع ابن الأشعث) قومه (كنده) لأنه قد علم أن كل قوم يكرهون أن يصادف فيهم مثل ابن عقيل) وهذا الاستنتاج من أبي مخنف يجعل اختيار الجنود من قيس ناشئًا من عوامل إدارية محضة. ونلاحظ أن شمر بن ذي الجوشن أحد أبرز رجال الأمويين في كربلاء - كان قيسيًّا.
(7) سليمان بن قته المحاربي من التابعين، مولى لـ (تيم قريش)، المعارف - لابن قتيبة : 487 - ومحارب قبيلة من فهر بن مالك بن النضر بن كنانة الذي تنتسب إليه قبائل قريش كلها. ومن فهر: الضحاك بن قيس الفهري، زعيم القيسية في معركة مرج راهط ضد اليمنية بزعامة مروان بن الحكم في الصراع على الخلافة بعد موت معاوية بن يزيد بن معاوية وانتهت المعركة بهزيمة القيسية، التي بايعت عبد الله بن الزبير بعد ذلك، ومقتل الضحاك بن قيس الفهري.
(8) المبرد (أبو العباس محمد بن يزيد): الكامل - تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم والسيد شحاتة - مطبعة نهضة مصر (غير مؤرخة) 1 / 223.
(9) الطبري: 5 / 378 - 379 و 397: (... فرأيتهما يجران بأرجلهما في السوق).
(10) الطبري: 5 / 398.
(11) الطبري: 5 / 395.
(12) نعتقد أن عدد الجيش الأموي في كربلاء يتجاوز الأربعة آلاف، وهو العدد الذي يبدو مقبولاً لدى المؤرخين. فقد ورد على لسان الطرماح بن عدي في كلامه مع الحسين حين لقي الحسين في عذيب الهجانات، قوله: (... وقد رأيت قبل خروجي من الكوفة إليك بيوم ظهر الكوفة وفيه من الناس ما لم تر عيناي في صعيد واحد جمعًا أكثر منه، فسألت عنهم، فقيل: اجتمعوا ليعرضوا، ثم يسرحون إلى الحسين... الطبري: 5 / 406) وتذكر كتب المقتل عدة روايات في عدد أفراد الجيش الأموي، أقر بها إلى تمثيل الحقيقة في نظرنا أن العدد يتراوح بين عشرين وثلاثين ألفًا.
السيد عبد الأعلى السبزواري
الشيخ جعفر السبحاني
عدنان الحاجي
الشيخ محمد جواد مغنية
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
السيد منير الخباز القطيفي
السيد جعفر مرتضى
السيد عادل العلوي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
عبدالله طاهر المعيبد
حبيب المعاتيق
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (1)
نتائج ثورة عاشوراء وآثارها
مهارات القراءة - وصعوباتها - عند الأطفال تظهر أبكر بكثير قبل دخولهم رياض الأطفال
هل أقدم الحسين (ع) على التّهلكة (1)
قتَلَة الإمام الحسين عليه السّلام
عرب الشمال وعرب الجنوب والثورة الحسينية
أمسية لابن المقرّب بمشاركة الشّاعرين الجلواح والمبارك
هلال عاشوراء: أوّل رزايا الطف
الشهادة بالمنظور القرآني
الارتفاع إلى مستوى الخطاب الحسيني