مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مهدي الآصفي
عن الكاتب :
عالم ومفكر اسلامي كبير، واستاذ في الحوزة العلمية، توفي(٤/٦/٢٠١٥)

المراحل الثلاثة في رحلة الحج (3)

المرحلة الثالثة: الانتقال إلى المحور الإلهي

 

وهذه هي المرحلة الثالثة من رحلة الحجّ الإبراهيمي

 

في المرحلة الأولى يتخلّص الإنسان من فرديته وأنانيته وأعراض هذه الأنانية.

 

وفي المرحلة الثانية يصبّ في الحرم في الجماعة المسلمة، وينصهر في هذه الجماعة (الأمّة).

 

وفي المرحلة الثالثة وهي الغاية الأخيرة في هذه الرحلة تصبّ هذه الجماعة في المطاف حول الكعبة، لتطوف حول الكعبة.

 

والكعبة في لغة الحجّ الرمزية: هي المحوريه الإلهية في حياة الإنسان، وإذا استطاع الإنسان في المرحلة الأولى من هذه الرحلة أن يتخلص من جاذبية محور (الأنا) في حياته، فإنّ المحور الإلهي يجذبه جذباً قوياً بطبيعة الحال إلى المحور الرباني.

 

وانجذاب الإنسان إلى هذا المحور أمر طبيعي كامن في عمق فطرة الإنسان، و(الأنا) هو الذي يحجز الإنسان عن هذه الجاذبية، فإذا تحرّر الإنسان عن حاجز سلطان (الأنا) فإنّ الجاذبية الإلهية تجذبه و(الطواف) بعد الإحرام من الميقات يرمز لذلك.

 

وعليه فإنّ حركة الطواف نقلة رمزية تعليمية في حياة الإنسان من الأنا إلى الله تعالى، وتعبير رمزي عن التوحيد في حياة الإنسان المسلم، إلّا أنّ هذا التوحيد ليس هو التوحيد النظري الذي يعرفه الناس، وإنما هو توحيد العبودية لله، وتوحيد الحبّ، والولاء، والاهتمام، كما ترسمه الآية المباركة: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ). «1».

 

إنّ الطواف يرمز إلى الحركة الإنسانية الدائمة والمستمرة حول هذا المحور الإلهي في التاريخ، وإننا لننظر من بعيد إلى حركة التاريخ، فنرى: أنّ حركة التاريخ تجسّد (التوحيد) في حياة الإنسان، وأنّ الأنبياء: وأممهم - إلّا في فترات قصيرة - يجسّدون هذه الحركة البشرية الدائمة حول محور الألوهية، فنشعر بحركة واحدة متصلة متواصلة، يتلقاها رسول من رسول، ونبي عن نبي، منسجمة وعلى صراط واحد، هو صراط الله المستقيم، ولكن عندما ندخل نحن ضمن هذه الحركة، فسوف نواجه ألواناً من المضايقات، والأذى، والمشاكسات من الهوى في داخل أنفسنا، ومن الطاغوت في المجتمع، ومن شياطين الجن والإنس، الذين يضايقون الناس في حركتهم إلى الله، ومن التنافس، والتنابذ، والاختلاف، والتقاطع داخل الحركة، فيما بين المؤمنين أنفهسم.

 

وحركة الطواف حول الكعبة تجسد هذا الواقع بالدقة... فإذا أطلّ الإنسان من أعلى إلى المطاف، يرى حركة دائرية لجماهير الطائفين بصورة مستمرة، وكأن أرض المسجد الحرام تطوف بهم حول البيت على شريط متحرك في حركة منظمة وهادئة، أمّا إذا دخل في المطاف، التقى بالوجه الآخر لهذه الحركة الإنسانية حول المحور الإلهي، من المعاناة، ومواجهة العقبات، والمضايقات، والتدافع، وهو يختلف اختلافاً كبيراً عن الوجه الأول الهادئ والمريح.

 

لماذا عبر الانصهار في الجماعة؟

 

في هذه الرحلة نحن نفهم المنطلق والغاية في حركة الإنسان بصورة دقيقة، فالمنطلق الذي ينطلق منه الإنسان هو تجاوز الأنا والذات، ويعبّر الإحرام في الميقات عن هذا المنطلق. والغاية هي الحركة إلى الله تعالى، وتوحيد الله تعال ، ويرمز الطواف إلى هذه الغاية.

 

ولكن الإنسان في الحج يصل إلى هذه الغاية عبر الانصهار في الجماعة المسلمة، ومن دون الانصهار في الأمّة المسلمة لا يمكن الوصول إلى هذه الغاية. إنّ التخطيط الإسلامي للحج يؤكّد على ضرورة حضور الأمّة المسلمة، وتواجدها في موسم الحج، من كلّ فجّ عميق.

 

(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ). «2» إنّ هذا الأذان، والأمان الجمعي، والدعوة الإلهية العامة للحج من قبل الله ورسوله، والاستجابة، والتلبية الجمعية من قبل الناس، من كلّ فجّ عميق، يشكل بالتأكيد بعداً هاماً من أبعاد الحج.

 

وعندما نستعرض آيات الحج، و(الكعبة) و(البيت) في القرآن، منذ أن رفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت، نجد اهتماماً كبيراً بحضور جمهور الناس في هذا البيت، وفي هذا الموسم، وأبلغ ما في ذلك تعبير القرآن عن بيت الله بأنه بيت الناس: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ * فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا). «3» ومن عجب أنّ الله تعالى يخصّ الناس - عباده - بأول بيت، وأشرف بيت، ويعلن عنه أنه بيت للناس، ثم يدعو الناس إليه: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ).

 

وفي دعاء إبراهيم (ع) نجد أنّ إبراهيم، خليل الرحمن، عندما أودع أهله وذريته بهذا الوادي القاحل غير ذي زرع، دعا الله تعالى أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ). «4» ونقرأ في سورة البقرة: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً). «5» فالبيت مثابة للناس، يجتمع الناس حوله، ويثوب إليه الناس، ويجمع الناس من كل حدب وصوب، ثم نقرأ أننا في سورة المائدة: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ). «6»

 

فالكعبة تقوّم حياة الناس، وتَقوُم حياة الناس بها، وعند الإفاضة يأمر الله تعالى عباده أن لا ينفرد بعضهم عن بعض في الإفاضة، وإنما يفيض كل منهم من حيث أفاض الناس: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ). «7» إذن حضور جمهور الناس حول البيت، وتواجدهم في الموسم، وانصهار الفرد في البيت والحرم في وسط جمهور الناس، شيء أساس في الحج، في طريق حركة الإنسان، في هذه الرحلة الإبراهيمية، إلى الله تعالى.

 

ونتساءل بعد ذلك لماذا؟

 

وهو سؤال هامّ يرتبط بسرّ من أسرار هذا الدين، فإنّ هذا الدين يحرك الإنسان إلى الله تعالى، ولكن من خلال الحضور في وسط الناس... وليس من داخل الكهوف والمغارات في أعالي الجبال.

 

فالحج حركة إلى الله، ولكن من خلال الانصهار في الناس، والصلاة معراج كل مؤمن، ولكن من خلال الجماعة، وحتى الاعتكاف الذي هو نحو من الخلوة يتمّ في المسجد الحرام، ومسجد النبي (ص)، والمسجد الجامع في الكوفة، والمسجد الجامع في أيّ بلد، وليس في مساجد الصغيرة، فنسأل مرة أخرى: لماذا لا تتم حركة الإنسان إلى الله في الحج إلّا من خلال الانصهار في الناس، ومن خلال الحضور في وسط الناس؟

 

والجواب:

 

إنّ من غير الممكن أن يتجاوز الإنسان (الأنا) في عزلة من الناس، وهو شرط أساس في الحركة إلى الله تعالى.

 

إنّ الإنسان قد يتصور إذا اعتزل الناس وابتعد عن الحياة الاجتماعية، يتحرّر من الأنا والهوى، ولكنه يخطئ كثيراً، فإنّ نزعات الأنانية تبقى مطوية في خبايا دهاليز النفس العميقة، وهو غير شاعر بها، فإذا دخل الحياة الاجتماعية، واحتك بالناس وأثاره الناس، برزت هذه النزعات المخبوءة على السطح الظاهر من شخصيته، ولا يمكن اجتثاث هذه النزعات، والقضاء عليها، إلّا في وسط الحياة الاجتماعية.

 

إنّ هذه النزعات لا يمكن استئصالها إلّا من خلال صراع مرير مع النفس في وسط الحياة الاجتماعية، ولا شك أنها تختفي في حياة العزلة والرهبانية، وتبقى كامنة ومختفية في النفس، ولكنها عندما تصادف فرصة مناسبة، وجوّاً مناسباً، تبرز مرة واحدة، ولذلك نجد فشل وانتكاسة الكثير من التجارب الرهبانية عند أوّل احتكاك بالحياة الاجتماعية.

 

إنّ الحقيقة المؤسفة في هذه التجارب التجريدية للنفس: أن النوازع الفردية لم تنته، ولم تمت أثناء التجربة الرهبانية، ولكنها تخمد لعدم وجود الوسط الملائم لبروزها وحركتها، وعند أول احتكاك بواقع الحياة الاجتماعية تعود قوية نشطة.

 

ولذلك لابدّ من هذا الوسط الاجتماعي، والحياة الاجتماعية، والحضور في وسط المغريات، والمثيرات، والفتن «8»، ليستطيع الإنسان أن يتجاوز (الأنا) بصورة كاملة.

 

وحقيقة أخرى لا تقل أهمية عن الأولى، وهي أنّ حركة الإنسان إلى الله تعالى حركة شاقة، عسيرة، وصعبة، ولا يستطيع الإنسان أن يطوي هذا الطريق وحده، فإذا حشر نفسه في الجماعة المؤمنة، وانصهر في وسط الأمّة، هان عليه السير، واستطاع أن يطوي معهم هذا الطريق بكفاءة، وجدارة، ويسر.

 

لذلك نقول في الصلاة، ونكرّر في كلّ يوم عشر مرات: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، بصيغة الجمع، وليس بصيغة المتكلم لوحده، فإنّ الطريق إلى الله طريق صعب، وليس من شك أنّ سلوك هذا الطريق وطيّ هذه المسافة مع الجماعة المؤمنة، آمن، وأسلم، وأيسر.

 

ولذلك نجد أنّ الطريق إلى الله تعالى يتمّ في الإسلام عبر الحضور في الجماعة المسلمة، والانصهار فيها، وليس بمعزل عنها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الأنعام : 162 - 163

(2) الحج : 27

(3) آل عمران : 96 - 97

(4) إبراهيم : 37

(5) البقرة : 125

(6) المائدة : 97

(7) البقرة : 199

(8) وليس معنى ذلك أن يعرض الإنسان نفسه لمزالق الشيطان، ويحضر مواقع الفتنة، وبين هذا وذاك فرق لا يخفى على اللبيب.

 

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد