سوف أركز حديثي على حكمة أساسية من حكم الحج، قد تكون خافية على الكثير منا، ألا وهي حكمة التعارف الذي جعله الله سبحانه وتعالى هدفاً وغاية لخلق البشرية، وذلك في قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَانثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ). (الحجرات / 13).
والتعارف الذي يعني، تعرّف الناس على بعضهم البعض، يمثّل أساس حضارة الإنسان فوق هذا الكوكب. ونحن نعلم أن كلمة الحضارة مشتقة من الحضور، والحضور على نوعين؛ حضور لجسد مع جسد آخر، وحضور الروح عند الروح، والإرادة لدى الإرادة الأخرى. وبتعبير آخر؛ هو حضور معنوي يفرز الحضارة والتقدم والتطور لدى الإنسان، لأن الإنسان الذي يكون له حضور إلى جنب أخيه الإنسان روحياً ومعنوياً، ويعترف منذ البدء بوجوده وحقوقه، فإن هذا الشعور هو الذي يجعل الفردين الحاضرين عند بعضهما يتعاونان. من المعلوم أن التعاون سوف ينتهي بالتالي إلى التقدم والتكامل.
الحضور المعنوي هو الأساس
ولذلك فإن الحضارة المستنبطة من فكرة الحضور والشهود، إنما تنفع إذا كانت تعني الحضور المعنوي ولم تكتف بالحضور المادي. فكلما كان حضور الإنسان عند الآخرين أكثر، فإن حضارتهم سوف تكون أسرع نمواً وأكثر نضجاً، لأن الإنسان الذي يتعاون مع إنسان آخر في جوانب معينة فإن الحضارة عندهما ستكون محدودة بحدود تعاونهم مع بعض. ولذلك فإذا كان هناك إنسانان مفترقين من الناحية المكانية، كأن يكون أحدهما في الشرق والآخر في الغرب، وساد بينهما التعاون من جميع جوانبه، فإنهما سوف يستطيعان إفراز الحضارة رغم أنهما ليسا حاضرين عند بعضهما جسدياً.
ولذلك فإن القرآن الكريم يستعمل بدقة مصطلح (التعارف) بدلًا من الحضارة، ذلك لأن معرفة البعض بالبعض الآخر، والوعي الحضاري المتبادل، وإدراك الإنسان أن عليه أن يتعاون مع الآخرين.. فإن كلّ ذلك هو بداية انطلاق الحضارة من كل موقع.
ومما لا شك فيه أن هذا التعارف يتجسد كأحسن ما يكون التجسد في حج بيت الله الحرام، لأن نخبة من أبناء الأمة الإسلامية من كافة الأقطار والطبقات سوف يتوافدون على منطقة واحدة، ويجردون أنفسهم عن الفوارق؛ ومن ضمن مظاهر هذه الفوارق الثياب، والجدل، والتفاخر بالآباء، والعمل، واستخدام الوسائل الترفيهية.. ولكن هذه الفوارق تذوب جميعها أثناء موسم الحج، كما يقول تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ). (البقرة / 197).
فالجدال الذي يفرق بين الإنسان وأخيه الإنسان محرم، وكذلك الفسوق والرفث، وكل ما من شأنه أن يميز إنسانا عن إنسان آخر.
وهكذا فإن الحج هو البوتقة الواحدة التي تذوب جميع الفروق والحدود والحواجز المصطنعة بين أبناء البشر. وقمة هذا الذوبان، هو التعارف. ونحن - المسلمين - بحاجة ماسة إلى هذه الحكمة سواء عبر فريضة الحج، أو الوسائل الأخرى.
أهمية التعارف في توثيق العلاقات
ومن أجل أن نبين أهمية التعارف في توثيق العلاقات الاجتماعية والإنسانية نقول: لنفرض أنه قد قيل لك إن لك إخوانًا مسلمين يعيشون في إحدى الجزر النائية تعرضوا لزلزال عنيف وقتلوا نتيجة لهذا الزلزال، فإن هذا الخبر من الممكن أن لا يهزك، ولا يثير مشاعرك إلّا لفترة موقتة. أما لو أخبرت أن زميلًا لك في الدراسة قد كسرت رجله، ورقد في المستشفى، فإنك ربما تتأثر أكثر. والسبب في ذلك أنك تعرف زميلك هذا، وهو يعيش في وعيك، لأن معرفتك به، وذكرياتك معه هي التي تدفعك إلى التأثر والتألم.
وإذا ما افترضنا أنك قد ذهبت إلى الحج، وفي أثناء أدائك لمراسم هذه الفريضة تعرفت بشكل أو بآخر على أهالي هذه الجزيرة، وتحدثت معهم، فحينئذ سيختلف وقع الخبر السابق بالنسبة إليك، فتبادر إلى مشاركتهم الحزن والأسى.
هل نحن في مستوى التعارف
وللأسف فإن المسلمين يعيشون اليوم حالة انفصام عن بعضهم. فلا يعرف بعضهم البعض الآخر، إلّا بقدر معرفتهم بالأخبار العامة.
وإذا ما أردنا أن نطرح هذه المشكلة في أفق أوسع، فلا بد أن نقول: إن مشكلة العالم الثالث الذي ننتمي إليه، هي مشكلة تخلفنا في مجال التطور العلمي. في حين أن الإسلام جعل طلب العلم فريضة على كل إنسان مسلم، والنبي صلى الله عليه وآله يحثنا على طلب العلم قائلًا: "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد" و"اطلبوا العلم ولو بالصين" «1»، والإمام الصادق عليه السلام يشدد على أصحابه في طلب العلم قائلًا: "ليت السياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقهوا في الحلال والحرام". «2»
إن هذا العلم الذي جعله الله عز وجل فريضة، وأمرنا أن نبحث عنه، هو مشكلتنا اليوم. في حين أن الغربيين لا يعانون من أية مشكلة في هذا المجال. فعلى سبيل المثال، فإن رئيس قسم الشرق الأوسط في مكتبة الكونغرس الأميريكية صرح ذات مرة أن هذه المكتبة مشتركة في (41) ألف نشرة دورية تتحدث كلها عن الشرق الأوسط، وفي الولايات المتحدة الأميريكية هناك المئات من بنوك المعلومات التي تزودنا بالمعلومات عن كل شيء؛ عن حياتنا، وعن طبيعة اقتصادنا، ومسار سياستنا، وتحركاتنا... وقد ربطوا الآن بنوك العالم في أوروبا بنظيراتها في أميركا، وهذه المعلومات تخزن، لتتم الاستفادة منها، ولذلك فإنهم استطاعوا أن يستعمرونا، ويكيدوا لنا، ويمكروا بنا.
الحج ضيافة الله / محمد تقي مدرسي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بحار الأنوار / ج 1 / ص 177.
(2) المصدر / ص 213.
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ محمد مهدي الآصفي
عدنان الحاجي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد الريشهري
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد عباس نور الدين
الشيخ محمد صنقور
الشيخ فوزي آل سيف
حيدر حب الله
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
عبدالله طاهر المعيبد
حبيب المعاتيق
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
(ملمس الظّلّ) جديد الشّاعر حسن المبارك
منتدى الينابيع الهجريّة يحتفي بثلاثة من شعرائه
أبعاد الحجّ الاجتماعية والسياسية في سيرة السّلف
المنفعة الكبرى للحج
أمسية شعريّة في جمعيّة الثّقافة والفنون بالدّمّام لخمسة من شعراء المنطقة
حُرُمات البيت الحرام (2)
التّكامل العباديّ في الحجّ
حركات العين تتنبّأ بحدود السّرعة في الإدراك
﴿وَلِكُلِّ أُمَّة جَعَلْنَا مَنسَكاً﴾
﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾