إنّ السنّة والسيرة النبوية الشريفة تشير إلى أنّالنبيّ صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم مارس الأعمال السياسية في الحجّ، هذا مضافاً إلى أنّ هناك أحاديث تفيد بأنّ الحجّ نوع من الجهاد لقوله صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم: «نِعْمَ الجهاد الحجّ». «1» وقوله - عليه وعلى آله السلام - : «الحجّ جهاد». «2» وقوله - صلوات اللَّه عليه وآله - : «الحجّ جهاد كلّ ضعيف». «3» وقوله صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم في جواب نسوة استأذنه في الجهاد: «جهاد كنّ الحجّ». «4»
وفي بعض الأحاديث قرَنَ النبيّ صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم الحجّ بالجهاد دون بقية الفرائض، إذ قال: «الغازي في سبيل اللَّه، والحاج والمعتمِر وَفْدُ اللَّه دعاهم فأجاه وسألوه فأعطاهم». «5» وهو يوحي بوجود الصلة وأوجه التشابه في الآثار والأهداف بين هاتين الفريضتين.
وإن شئت قلت: إنّ ذلك يوحي بأنّ الحجّ ليس مجرّد عبادة - بالمعنى المتعارف - بل عمل مشابه للجهاد في الآثار والأهداف، أي أنّه عبادة وعمل سياسي، فهو موسم للعمل السياسي كما هو موسم للعبادة والضراعة والتوجّه إلى اللَّه بالتعبّد.
ثمّ إنّ السيرة تحدّثنا بأنّ النبيّ الأكرم صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم خطب في موضعين: عرفة «6» ومنى وأعلن في خطبتيه عن مواقف وأحكام اقتصادية وسياسية واجتماعية إسلامية هامّة نذكر هنا مقاطع منها:
1 . إنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا.
2 . ألا وإنّ كلّ شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمَيَّ هاتين.
3 . ودماء الجاهلية موضوع وأوّل دم أضعه دم ربيعة بن الحارث - وكان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل –
4 . وربا الجاهلية موضوع، وأوّل ربا أضعه ربا العبّاس بن عبد المطّلب فإنّه موضوع كلّه.
5 . إنّ كل مسلم أخو المسلم، وإن ّالمسلمين إخوة، فلا يحلّ لامرئ من أخيه إلّا أعطاه عن طيب نفسه منه.
6 . ثلاث لا يُغِلّ عليهنّ قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل للَّه، والنصيحة لأئمّة الحقّ، واللزوم لجماعة المؤمنين.
7 . الناس في الإسلام سواء، لا فضل لعربيّ على عجميّ إلّا بتقوى اللَّه.
8 . إنّ المسلم أخو المسلم لا يغشّه ولا يخونه ولا يغتابه، ولا يحلّ له دمه ولا شيء منه إلّا بطيبة نفسه.
9 . لا ترجعوا بعدي كفّاراً مضلّين، يملك بعضكم رقاب بعض.
10 . إنّكم مسؤولون فليبلغ الشاهدُ منكم الغائب.
ثمّ استشهدهم على ما بلّغ فشهدوا له بذلك. «7»
ولعلّ ما جاء وصحّ عن الرسول صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم من الأدعية والأذكار في الحجّ - تلك الّتي تتضمّن معان سياسية إلى جانب معانيها التوحيدية - خير شاهد على أنّ الحجّ موسم مناسب لأن يظهر فيه المسلمون موقفهم من أعداء اللَّه والإسلام خاصّة وإذا عرفنا أنّه يستحبّ ترديد هذه الأدعية ضمن مناسك الحجّ مثل الدعاء التالي: «لا إله إلّا اللَّه وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمد، يحيي ويُميت وهو علي كلّ شيء قدير». «لا إله إلّا اللَّه وحده وحده، أنجز وعده، ونَصَر عبده، وهَزَم الأحزابَ وحده». «8»
هذا مضافاً إلى ما في مناسك الحجّ من رمزية، فكلّ منسك من هذه المناسك يرمز إلى شيء اجتماعي وسياسي وأخلاقي مضافاً إلى كونها عبادةً وانقياداً وإن لم يمكن الوقوف الكامل على كلّ ما تنطوي عليه هذه المناسك من معانٍ.
وقد أشار كثير من علماء الإسلام والمفكّرين الإسلاميّين إلى ما ترمز إليه هذه المناسك من أُمور معنوية واقتصادية واجتماعية وسياسية نحيل القارئ الكريم إليها رعاية للاختصار.
هذا مضافاً إلى أنّ هناك ما يدلّ على أنّ النبيّ صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم مزج الأعمال العبادية بالأهداف والممارسات السياسية في الحجّ.
ففي البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال: «لمّا قَدِمَ النبيّ صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم لعامه الذي استأمن فيه قال: ارملوا - ليُري المشركين قوّتهم -». «9». قال ابن الأثير في النهاية: أمر النبي صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم برَمَل الطواف أصحابه في عمرة القضاء ليُري المشركين قوّتهم حيث قالوا: وهتتهم حمّى يثرب وهو مسنون في بعض الأطواف دون بعض.
ولمّا استقرّ أمر الإسلام واستتب قال عمر: فيم الرَّمَلان - أي الطواف بتلك الكيفية - أو الكشف عن المناكب وقد أطّأ اللَّه الإسلام ونفى الكفر وأهله...».
وهذا يشير إلى أنّه يجوز أن يضمّ الحاج إلى مناسكه مقاصد سياسية وأغراض جهادية مثل إرهاب الأعداء واستنكار أعمالهم، وشجب مؤامراتهم وفضح خططهم.
ثمّ ألا يدلّ اختيار الرسول صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم لسورتي التوحيد (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) والكافرون (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) في صلاة الطواف «10» واستحباب قراءتهما للمسلم الحاج، والحال أنّ هناك سوراً أُخرى أو آيات أُخرى قد تحتوي على معان وأبعاد أخلاقية وتربوية أكثر، ويشهد على أنّ الحجّ هذا المشهد الإسلامي العالمي، وهذا المجمع العام خير وقت لإعلان الموقف السياسي الصارخ ضدّ قوى الكفر والاستكبار، كما ويوحي بذلك أنّ عمر بن الخطّاب كان يقول إذا كبّر واستلم الحجر: «بسم اللَّه واللَّه أكبر على ما هدانا، لا إله إلّا اللَّه، لا شريك له، آمنت باللَّه وكفرت بالطاغوت». «11». ثمّ إنّ الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السَّلام قال في بيان فلسفة الحجّ ضمن ما قال: «إنّ اللَّه عزّ وجلّ خلق الخلق لا لعلّة إلّا أنّه شاء ففعل فخلقهم إلى وقت مؤجّل، أمرهم ونهاهم ما يكون من أمر الطاعة في الدين ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من المشرق إلى المغرب ليتعارفوا... ولتعرف آثار رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم وتعرف أخباره ولا تُنسى، ولو كان كلّ قوم إنّما يتّكلون على بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد وسقط الجلب والأرباح، وعميت الأخبار ولم يقفوا على ذلك، فذلك علّة الحجّ». «12». وعنه عليه السَّلام أنّه قال أيضاً: «ما من بقعة أحبّ إلى اللَّه من المسعى، لأنّه يذلّ فيه كلّ جبّار». «13».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) . صحيح البخاري : 3 / 221 ، كتاب الجهاد.
(2) . سنن ابن ماجة : 2 / 968 و 995 ، مسند أحمد : 6 / 294 و 303.
(3) . مسند أحمد بن حنبل : 6 / 294 و 303 و 314.
(4) . مسند أحمد : 6 / 71.
(5) . سنن ابن ماجة ، المناسك : 2 / 966 برقم 2892.
(6) . في سنن الترمذي: عن جابر في باب حجّة رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم قال: لمّا كان يوم التروية وتوجّهوا إلى منى أهلّوا بالحجّ، فركب رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم فصلّى بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، ثمّ مكث قليلًا حتى طلعت الشمس وأمر بقبّة من شعر فضربت له ب « نَمِرَة » فسار رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّمحتّى أتى عرفة فوجد القبّة قد ضربت له فنزل بها حتّى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فركب حتّى أتى بطن الوادي فخطب الناس فقال... (سنن الدارمي : 2 / 47)
(7) . وقد وردت هاتان الخطبتان اللّتان دمجناهما هنا في صحيح مسلم في حديث حجّ النبيّ صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم وفي سنن أبي داود، وسيرة ابن هشام وغيرها.
(8) . سنن أبي داود : 2 / 213 ، المناسك ، سنن الترمذي : 2 / 213 الحج.
(9) . صحيح البخاري : 5 / 181 ، باب عمرة القضاء.
(10) . راجع صحيح مسلم : 4 / 40 كتاب الحجّ باب حجّة النبيّ صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم.
(11) . تاريخ مكّة : 1 / 339 طبعة مكّة المكرّمة عام 1385 ه.
(12) . بحارالأنوار : 99 / 33 عن علل الشرائع للصدوق.
(13) . بحار الأنوار : 99 / 49 .
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ محمد مهدي الآصفي
عدنان الحاجي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد الريشهري
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد عباس نور الدين
الشيخ محمد صنقور
الشيخ فوزي آل سيف
حيدر حب الله
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
عبدالله طاهر المعيبد
حبيب المعاتيق
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
(ملمس الظّلّ) جديد الشّاعر حسن المبارك
منتدى الينابيع الهجريّة يحتفي بثلاثة من شعرائه
أبعاد الحجّ الاجتماعية والسياسية في سيرة السّلف
المنفعة الكبرى للحج
أمسية شعريّة في جمعيّة الثّقافة والفنون بالدّمّام لخمسة من شعراء المنطقة
حُرُمات البيت الحرام (2)
التّكامل العباديّ في الحجّ
حركات العين تتنبّأ بحدود السّرعة في الإدراك
﴿وَلِكُلِّ أُمَّة جَعَلْنَا مَنسَكاً﴾
﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾