مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد الريشهري
عن الكاتب :
ولد عام 1365ﻫ في مدينة الري جنوب طهران. بدأ بدراسة العلوم الدينية في مسقط رأسه، في سافر إلى قم عام 1380ﻫ لإكمال دراسته الحوزوية، وبعد انتصار الثورة الإسلامية سافر إلى طهران، واستقرّ بها حتّى وافاه الأجل، مشغولاً بالتأليف والتدريس وأداء واجباته الدينية. من مؤلّفاته: موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (ع) في الكتاب والسنّة والتاريخ، ميزان الحكمة، موسوعة الإمام الحسين (ع) في الكتاب والسنّة والتاريخ، موسوعة العقائد الإسلامية، المنهج السياسي للإمام علي (ع).

العقيدة، المعنى والدور

إنّ كلمة (عقيدة) مشتقّة من المصدر (عقْد الذي يعني الإحكام والشدَّ والربط، وربطُ الشيءِ بشيء آخر أو شدُّه إليه يمكن أن يكون حقيقيًّا ومادّيًّا حينًا كتطعيم شجرة ببرعم أو بغصن من شجرة أُخرى، ويمكن أن يكون اعتباريًّا ومعنويًّا حينًا آخر كزواج رجل بامرأة يرتبط بها بواسطة عقد قرانه عليها.

 

فالعقيدة إذاً عبارة عن ذلك الشيء الذي يتّصل بذهن الإنسان وروحه وفكره. فعندما يتقبّل الذهن أنّ الأرض تدور حول الشمس أو أنّ الشمس تدور حول الأرض، وعندما يتقبّل أنّ الدّمَ يدور في الجسم أو لا يدور، وعندما يتقبل أنّ للكون خالقًا أو ليس له، وعندما يتقبّل أنّ الإنسان بعد مماته يحيا أو لا، فتقبُّله لأيّ نظرية - حقًّا كانت أم باطلاً - يعني شدّ تلك النظرية إلى الذهن وربطها به وإحكام صلتها فيه.

 

دور العقيدة في الحياة

 

إنّ عقائد الإنسان وتصديقاته هي الأساس لجميع توجّهاته في الحياة، وعليه  فالعقيدة صاحبة الدور الأكبر في الحياة الفردية والاجتماعية، وعلى حدّ قول الباري سبحانه: (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ). (1) فعقائد الانسان وتصديقاته هي التي تحدّد هيئته الباطنية وحقيقته الواقعية وتشكّلهما، وهي التي تحفّزه إلى العمل وتحدّد اتّجاهه في الحياة، فإذا كانت عقيدته صائبة مطابقة للواقع كان طريق حياته صائبًا كذلك، أمّا إذا كانت عقيدته فاسدة باطلة فإنّ طريق حياته لا يؤدّى إلاّ إلى الضياع، ومن ثَمّ كان اهتمام الإسلام بتصحيح العقيدة قبل أيّ شئ آخر.

 

من المؤكّد أنّه ليست هناك مدرسة تفوق مدرسة الإسلام في تقديرها للعقيدة، فالعقيدة في الإسلام هي المعيار لتقييم الأعمال، وحتّى الأعمال الصالحة فإنّها تعتبر فاقدة لقيمتها ما لم تنبعث عن عقيدة صحيحة صائبة! يقول الإمام الباقر (عليه السلام): لا يَنفَعُ مَعَ الشَّكِّ وَالجُحودِ عَمَلٌ. (2) وهذا يعنى أنّ صحّة العمل وفائدته ودوره في تكامل الإنسان منوطٌ بصّحة عقيدة العامل، فإن لم تتوفّر في الإنسان سلامة عقيدته وكان منكِراً لما هو حق أو اعتراه الشّك فيه فإنّ ما يتأتّى عن عقيدته من عمل لا يمكن أن يكون سالـمًا أو يجدي نفعًا، ذلك لأنّ العقيدة هي التي تثير في الإنسان دافعًا للعمل، والدافع هو الذي يوجّه العمل، والدافع والاتّجاه كلاهما يحدّدان مفهوم العمل ومعناه ولياقته وعدم لياقته.

 

لذلك ، فإنَّ - من وجهة نظر الإسلام - أوّلَ ما يُطرح على الإنسان بعد مماته لدى دخوله في عالم الآخرة من استجوابات مبدئيّة للتسجيل في ملفّ أعماله هو السؤال عن العقائد، فأوّل سؤال عن العقيدة، لا عن العمل: بأيّ إله آمنت؟ وبأيّ دين اعتقدت؟ ومن أُسوتك ورائدك الذي اتّبعتَه؟ ولا يمكن العثور على مدرسة بين مدارس العالم تعير العقيدة الإنسانيّة ما يعيرها الإسلام من الاهتمام والقيمة والاحترام البالغ، فالبحوث العقائديّة من منظار الإسلام تتصدّر البحوث الأخرى على الإطلاق.

 

فعلى المؤسّسات العلميّة الدينيّة والجامعات في الأقطار الإسلاميّة أن تُولي المحاضرات والبحوث والقضايا العقائديّة عظيم اهتمامها قبل كُلّ شئ.

 

ونشير هنا إشارةً مقتضبة إلى قصّة تربويّة بالغة التعليم في هذا المجال. روى المرحوم الشيخ الصدوق (المتوفّى 381 ه‍) - وهو من أعلام محدّثي الشيعة في كتبه المعروفة: معاني الأخبار؛ والخصال؛ والتوحيد - عن شخص يُدعى القدام بن شريح بن هانئ، عن أبيه قال: إنّ أعرابيًّا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال: يا أَميرَ الـمُؤمِنينَ، أَتَقولُ إِنَّ اللهَ واحِدٌ؟!

 

سؤال لم تكن له أيّ مناسبة في نظر المقاتلين المنهمكين في القتال ولا شاغل لهم إِلاّ التخطيط للعمليات والخطط الحربية وما يلزم لتنفيذها، فلو أنّ سائلاً أراد أن يسأل عن شيء في ذلك الموقف فلا بدّ أن يكون سؤاله مرتبطًا بالحرب، بالمسألة الأصلية في ذلك اليوم، فلمّا رأوا أنّ سؤال الأعرابي عن مسألة عقائدية تبدو حسب الظاهر وكأنما لا مِساسَ لها بالمعركة من أيّ جهة وأنّ في إمكانه أن يطرح سؤاله ويحظى بجوابه في أيّ وقت آخر، اشتاطوا غضبًا جميعًا من تصرّف هذا الرجل وعدم تقديره لظروف الوضع القائم، وارتفعت أصواتهم بالاعتراض عليه كلٌّ من جانبه.

 

عِظةٌ بالغةٌ قيّمة

 

فلمّا رأى الإمام علي (عليه السلام) ذلك الأعرابي وسط وابل من الاعتراض والتهجّم تداركه بعبارة تاريخية وموعظة تعليمية عظيمة، تعبّر بدقّة عن أهمّية البحوث العقائديّة؛ حيث قال (عليه السلام): دَعوهُ، فَإِنَّ الَّذي يُريدُهُ الأَعرابِيُّ هُوَ الَّذي نُريدُهُ مِنَ القَومِ! إنّ عبارة الإمام هذه التي أُلقيت في تلك الظروف على غاية من الأهمّية، وما أجدرها بالتأمّل والتّحقيق.

 

فلو تصوّرنا الظروف في تلك اللحظات المصيرية الحاسمة بالنسبة للإمام (عليه السلام) لتجلَّى الواقع عن عدم توفّر المجال المناسب للإجابة على مثل هذا السؤال، وأنّه كان في إمكان الإمام (عليه السلام) أن يحيل الإجابة إلى غيره، أو أن يستمهلها إلى فرصة أوسع؛ إلاَّ أنّه لا أحالها ولا اعتذر عنها لضيق الوقت، وإنّما رآها فرصةً ليقلن المسلمين درسًا، أراد أن يعلّمهم فلسفة الجهاد، ويبيّن لنا أهمّية المسائل والبحوث العقائدية ودراستها والمحاضرة فيها.

 

وإنّه (عليه السلام) رغم تلك اللحظات المصيريّة الحسّاسة وتأزُّم الفرصة، تصدَّى للدفاع عن تساؤل ذلك الأعرابي، وبيان فلسفة الجهاد والقتال، قائلاً: دعوه يسأل مسألته، فنحن أيضًا لا هدف لنا من قتالنا ضدّ هؤلاء القوم إلاّ هذا، نحن لا نهدف إلى التسلّط والاستغلال، وإنّما هدفنا هو المعرفة والإدراك والتَّنَوُّر، وما القتال إلاّ من أجل تحطيم السدود وإزالة العراقيل ورفع الحجب التي تمنع الحقيقة من أن تتجلّى عن نفسها، ففلسفة الجهاد هي تحرير الإنسان من ربقة المعتقدات الموهومة، وتهيئة الـمُناخ اللازم لتصحيح العقائد، وأزدهار المعتقدات العلمية الصحيحة.

 

وعليه، فإنّ سؤال الأعرابي لم يقتصر على كونه ذا صلة مباشرة بالمسألة الأصلية، وهي الحرب فحسب، بل إنّه ليرتبط بها في أدقّ أبعادها وأعمقها، ذلك لأنّ سؤاله يتعلّق بفلسفة القتال والجهاد، وما من صلة أقوى من صلة الشيء بفلسفته. لذلك أدار الإمام علي (عليه السلام) وجهه نحو الأعرابي وأجاب عن سؤاله في غاية الوقار والدقّة، قائلاً:

 

يا أَعرابِيُّ، إِنَّ القَولَ في أَنَّ اللهَ واحِدٌ عَلى أربَعَةِ أَقسام: فَوَجهانِ مِنها لا يَجوزانِ عَلَى اللهِ عزّ وجلّ، ووَجهانِ يَثبُتانِ فيهِ ثمّ وضّح له الإمام (عليه السلام) الأقسام الأربعة قسمًا قسمًا. (3)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 . الإسراء: 84.

2 . الكافي: 2 / 400 / 7، الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السلام): 388 وفيه " أروي . . . "، بحار الأنوار: 72 / 124 / 1.

2 . راجع: موسوعة العقائد الإسلامية ج 4 ص 31 ح 4138.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد