مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطهراني
عن الكاتب :
عُرف بين الناس باسم العلامة الطهراني، عارف وفيلسوف، ومؤلف موسوعي، من مؤلفاته: دورة المعارف، ودورة العلوم، توفي عن عمر يناهز الواحد والسبعين من العمر، سنة 1416 هـ.

الصوم حركة تكاملية للإنسان

إنّ مسألة الصوم هي مسألة ينبغي علينا أن نأخذها بعين الاعتبار، وكيف أنّ الله تعالى قد جعلها على طريق سيرنا الصعودي وحركتنا التقربيّة والتجرديّة، وهي مِنّةٌ منه تعالى في أعناقنا أن جعل لنا شهراً للصوم.. هي منّةٌ منه تعالى علينا.

 

إذا أردنا أن نتنعّم في يوم القيامة بنعم أكثر، علينا أن نصوم شهراً واحداً من الأشهر الإثني عشر كحدّ أقلّ، وعلى الإنسان أن ينظر إلى هذا الحدث كوسيلة من وسائل الحياة، لا كحدث قسري وتعسّفي، وأنّ هذا أمر إلهي، فينبغي علينا الإتيان به، وإلاّ فمن المعلوم ما الذي سيفعلونه بنا في ذلك العالم!

 

ألم تسمعوا ببعض الناس يذهبون إلى مكّة، وعندما يصلون إلى هناك، يبدؤون بعدّ الأيّام متى يرجعون إلى بلدانهم. في أحد الأيّام تشرّفنا بالذهاب إلى مكّة، وكان ذلك منذ مدّة طويلة وفي زمان المرحوم العلاّمة [والد السيد]، غير أنّه لم يكن معنا، لكنّ ذلك حصل في زمانه، وقد كنّا برفقة مجموعة من الأشخاص، فجاء أحدهم إلى الغرفة، وكان من معارفنا، وكان طاعناً في السنّ، فقلت له: كيف وجدتم هذه المدينة [المدينة المنوّرة]؟ لأنّها كانت زيارته الأولى، فقال لي: سينتهي كلّ شيء يا سيّدي، سينتهي كلّ شيء ونعود إلى زوجاتنا وأولادنا..

 

وأضاف سينتهى كلّ شيء! نعم، لقد كنت في الغرفة، حيث كان هناك مجموعة من الأشخاص يشتكون، فقلت لهم عدّوا الأيّام بأصابعكم: مضى يوم، مضى يومان، فينتهي الأمر، ففي الأخير سنرجع! فنظرت إليه بتعجّب! حسناً، ما الذي يُمكننا قوله! سينتهي كلّ شيء.... فالذي يذهب إلى مكّة أو إلى المدينة عليه أن يقول عند مضيّ يوم: آخ !! لقد مضى يومٌ آخر! ولم يبقَ إلاّ ثمانية وعشرون يوماً، وفي اليوم التالي يقول: آخ!! لم يبقَ إلاّ سبعة وعشرون يوماً.. فمثل هذا يختلف حاله كثيراً عن ذاك الذي يعدّ الأيّام لكي يرجع إلى زوجته وأولاده.

 

وكان حال الأعاظم بما يخصّ شهر رمضان المبارك يشبه هذا الحال، فكانوا يقولون: آخ! لقد انقضى اليوم الثالث من شهر رمضان.. آخ! مرّ أسبوع.. آخ!! مرّت عشرة أيّام...

 

لقد كانت حالهم بهذا الشكل، لماذا ؟! ما الذي كانوا يفهمونه؟ وبماذا كانوا يشعرون؟ وما الذي يدركونه حتى كانوا ينزعجون من انقضاء الوقت، وأن الأيام والليالي تأتي وتذهب وتسوق الشهر إلى آخره؟!

 

أصلاً هو متضايق ويتمنّى لو أنّ حركة الليالي والأيّام تتوقّف، وليت الشمس والقمر يتوقّفان عن الحركة! فما هي القضية؟ وما هو السبب الذي يدفعهم لذلك؟ يجب أن نرى ما هو نوع الصيام الذي يؤدّيه هؤلاء العظماء؟ وما هو نوع الاهتمام الذي كان عندهم بهذه الفريضة؟

 

.... عندما كان شهر رمضان يقترب، كان السيّد الوالد رضوان الله عليه يجمع رفقاءه ويذكّرهم ببعض المسائل، ويبيّن لهم بعض المطالب ـ وبطبيعة الحال كان ذلك في سابق الأيام، لا في أواخر عمره ـ وكان يهتمّ ويعتني كثيراً بشهر رمضان. ومن ضمن الأمور التي كان سماحته يوصي بها أن: لا تدخلوا في جدال مع الناس، وتجنبوا النقاش معهم! يعني لو فرضنا أنّه في سائر الأيام كان من عادة الإنسان أن يناقش ويجادل، فعليه في هذا الشهر المبارك أن يترك ذلك؛ لأن الجدال والنقاش يجرّ الإنسان إلى الأسفل، ويحرُم الإنسان من تلك الفوائد العظيمة، ويحبس الإنسان في مراتب الأسماء الجزئية ويحصره فيها، فليعمل الإنسان قدر المستطاع أن يتجاوز عن ذلك، ولا يسمح للمسألة أن تصل إلى النقاش والمشاجرة.

 

ومن الواضح أنّ هذا الدستور يجري في جميع أيّام السنة! ولكن من العجيب كيف أنّ الغفلة تستولي على الإنسان، ولكن في شهر رمضان المبارك، وبواسطة ذلك الجوع ورقّة النفس والروح التي تحصل للإنسان بسبب قلّة الاهتمام بالطعام والمأكولات وأمثال ذلك، فإنّ الإنسان يلتفت إلى هذه المسألة ويتذكّرها بشكل أكبر، مع العلم أنّ هذا ما ينبغي عليه أن يفعله في طوال أيّام السنة، وليس هناك دستور خاصّ بأنّ على الإنسان أن يلتزم ببعض الأمور في شهر رمضان، وأما في باقي أيّام السنة فهو مهمل ومتروك ليفعل ما يشتهي! كلاّ ليس الأمر كذلك، ولكنّ الأرضية في شهر رمضان مساعدة بشكل أكبر من باقي الأيّام والشهور، وأجواءه تساعد الإنسان أكثر على الالتزام بهذه المراقبة وتلك الدستورات التي كان الأعاظم يوصون بها.

 

كان سماحته يوصي باجتناب النقاش والجدل مع الناس، والإصرار على مسألة ما بدون سبب، فهذه الأمور تسلب فائدةَ الصوم من الإنسان أو تقلّل أثرها، وتخفّف الحالة التي يحصل الإنسان عليها وتضعفها، ولذلك كان سماحته يوصي بأنّه إذا أحسّ الإنسان أنّه سيبدأ بنقاش وشجار مع أحد، فعليه أن يتجاوز ويغيّر الموضوع ويبتعد عن المسألة التي تسبب ذلك....

 

ومن المطالب التي ينبغي الاهتمام بها بشكل كبير في شهر رمضان المبارك الابتعادُ عن التوهّمات والخواطر التي نوجدها في أذهانها عن الأفراد الآخرين، سواءً كانت واقعية أم لا، فليس حديثنا عن ذلك، فنفس وجود هذه الخاطرة في الذهن مضرّ للإنسان الصائم، وبطبيعة الحال فنحن لا نتحدّث عن الخواطر الإيجابية والحسنة بل حديثنا عن تلك الخواطر التي بمجرّد أن يتذكّرها الإنسان فإنّ يعبس بشكل لا إرادي... وهذا يحصل حتّى لو كان الإنسان لوحده دون أن يتحدّث مع أحد! فعلى الإنسان ألاّ يسمح لمثل هذه الخواطر أن تأتي إلى ذهنه أصلاً؛ لأنّها بمجرّد أن تدخل في الذهن فإنّها تخرّب وتؤثّر بشكل سلبي. ولذلك ينبغي للإنسان ألاّ يفسح المجال لها بالدخول من البداية.....

 

... ونحن لا ينبغي لنا أن نقضي هذين اليومين من الدنيا بأمور كهذه، فنحن عندنا الكثير من الأشغال، وعندنا الكثير من الأمراض، والكثير من النقائص، والكثير من نقاط الضعف، والكثير من التأخّر والتسويف، ولا وقت لدينا لكي نستمع إلى ما قاله هذا عنّا وراء ظهرنا، وماذا قال ذاك وأمثال ذلك، فهذه المطالب ستكبّل أيدينا وتمنعنا من الارتقاء!! يا عزيزي، كم بقي من عمرنا حتّى نضيعه في هذه الأمور؟

 

إنّ هذه الأمور هي من المسائل التي كان الأعاظم يؤكّدون عليها! وكل شخص بحسب المقدار الذي يهتمّ بها ويراعيها، فإنّه هو الذي سيستفيد، وسيحصل على المنفعة من ورائها. اعلموا قطعاً أنّ الصلاة التي تؤدّونها بعد سماع الكلام المنقول لكم ستختلف عن صلاتكم التي أديتموها قبل استماعه، فسماع هذا المطلب قد فعل أثره.. لقد ترك فيكم أثره التخريبي! حسناً، فلماذا يستمع الإنسان لمثل هذا الكلام حينئذٍ؟! واضح! وههنا يقول الأعاظم: إن السالك الذكي هو السالك الذي يحصر تفكيره في نفسه!... يعني ذلك الشخص الذي يأتي ويقول لك: يا سيّد، لقد كنت جالساً في المكان الفلاني، وسمعت الشخص الفلاني يقول عنكم كذا وكذا.. فاعلم أنّ هذا الشخص يقوم بتخريبك ويضرّك!!

 

لقد ذكرت للرفقاء مراراً بأنّ الكذب والنفاق فيه ضرر أهمّ وأخطر من ذلك الأثر الخارجي الناشئ عنه، وهو ذلك الأثر الذي يوجده في نفس المتكلّم أوّلاً! فهذا كيف يمكن علاجه! افرضوا أنّ شخصاً جاء وألقى كلاماً كاذباً أو تعامل بغش ورياء وأمثال ذلك، فهذه الأمور لها آثار خارجية، وتبعات سلبية خارجية، وهذه محفوظة في مكانها، ولكن قبل تلك التبعات والآثار الخارجيّة، ماذا ستفعل بذلك البلاء الذي نزل على النفس؟! إنّ أمثال هذه التصرّفات تغيّر الإنسان وتقلب أحواله، وبعد مدّة من الزمان تنظر إليه فتتعجّب من شكله، إنّك تشعر أنّ هذا الشخص لم يعد إنساناً، بل كأنّه صار حيواناً، فلماذا صار كذلك؟! لأنّه كذّب وكذّب حتّى صار حيواناً.. لقد صار تمثالاً للكذب، فإذا أردت أن ترى الكذب فانظر إليه.. انظر إلى جبهته فسترى مكتوباً عليها: الكذب!! النفاق!! الرياء!! الغش!! الحيوانية!! فما هي هذه الأمور؟! إنّها الأثر الذي أوجده في نفسه، فضلاً عن الآثار الخارجية لهذه الأعمال.

 

إن الدستور الذي يعطيه لنا الأولياء والأعاظم هو في المقام الأوّل من أجلنا نحن، لا من أجل الخارج والآخرين، فما علاقتنا نحن بالخارج؟! بل إنّ منفعته راجعة لنا نحن.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد