من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد هادي معرفة
عن الكاتب :
ولد عام 1348هـ بمدينة كربلاء المقدّسة، بعد إتمامه دراسته للمرحلة الابتدائية دخل الحوزة العلمية بمدينة كربلاء، فدرس فيها المقدّمات والسطوح. وعلم الأدب والمنطق والعلوم الفلكية والرياضية على بعض أساتذة الحوزة العلمية، عام 1380هـ هاجر إلى مدينة النجف الأشرف لإتمام دراسته الحوزوية فحضر عند بعض كبار علمائها كالسيد محسن الحكيم والسيد أبو القاسم الخوئي، ثم سافر إلى مدينة قم المقدسة والتحق بالحوزة العلمية هناك وحضر درس الميرزا هاشم الآملي. من مؤلفاته: التمهيد في علوم القرآن، التفسير والمفسِّرون، صيانة القرآن من التحريف، حقوق المرأة في الإسلام.. توفّي في اليوم التاسع والعشرين من شهر ذي الحجّة الحرام من عام 1427هـ بمدينة قم المقدّسة، ودفن بجوار مرقد السيّدة فاطمة المعصومة عليها السلام

لمحة عن الإسكندر المقدوني

لعلّك تتساءل: ما هو السبب في شيوع القول بأنّ ذا القرنين المذكور في القرآن، هو الإسكندر المقدوني (اليوناني)، وقد شاع وصف سدّ ذي القرنين بالسدّ الإسكندري؟! قد تكرّرت آراء من يرى - من المفسّرين وبعض أهل التاريخ - أنّه الإسكندر في عدّة مراجع:

 

وأوّل من وجدناه ذكر ذلك من أهل التاريخ، هو أحمد بن داود الدينوري (ت 282 هـ) في كتابه «الأخبار الطوال». ذكر فتوحاته في الهند والصين، وكرّ راجعًا إلى بلاد يأجوج ومأجوج، وبنائه السدّ، حيث قصّ اللّه خبرهم في القرآن. «1» وبعده العلّامة المؤرّخ الجغرافي أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي (ت 345 هـ) في كتابه «التنبيه والإشراف». قال فيه: وأخبار الإسكندر وسيره ومسيره في مشارق الأرض ومغاربها وما وطئ من الممالك ولقى من الملوك وبنى المدائن ورأى من العجائب، وأخبار الردم... «2» ومن المفسّرين الكبار الإمام الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره الكبير، استنادًا إلى أنّ إنسانًا هذا شأنه، قد ملك المشرق والمغرب وطاف البلاد، لا بدّ أن يبقى ذكره خالدًا غير مطموس ولا مغمور، ولا أحد من ملوك العالم - فيما سجّله التاريخ - يعرف بهذا الوصف سوى الإسكندر اليوناني...

 

ثمّ يعترض على هذا الرأي بأنّ الإسكندر هذا كان تلميذ أرسطاطاليس الحكيم وكان على مذهبه، فتعظيم اللّه إيّاه يوجب الحكم بأنّ مذهب أرسطاطاليس حقّ وصدق...

 

وذلك ممّا لا سبيل إليه... قال: وهو إشكال قويّ... «3» وتبعه على ذلك المتأثّرون بتفسيره، منهم: نظام الدين الحسن بن محمد القمي النيسابوري (ت 728 هـ) في تفسيره «غرائب القرآن». قال فيه: وأصحّ الأقوال أنّ ذا القرنين هو الإسكندر بن فيلقوس - ولكنّه وصفه بالرومي، خطأ - واستدلّ بما استدلّ به الرازي. وأجاب عن الإشكال بأن ليس كلّ ما ذهب إليه الفلاسفة باطلًا، فلعلّه أخذ منهم ما صفا، وترك ما كدر... «4» وعلّامة بغداد أبو الفضل شهاب الدين السيد محمود الآلوسي (ت 1270 هـ) في تفسيره «روح المعاني» يسرد الأقوال بشأن شخصية ذي القرنين، وينتهي أخيرًا بأنّه الإسكندر المقدوني - الموصوف تارة باليوناني وأخرى بالرومي - يقول: وكأنّي بك بعد الاطّلاع على الأقوال، وما لها وما عليها، تختار أنّه إسكندر بن فليقوس الذي غلب «دارا» ملك فارس وأنّه كان مؤمنًا لم يرتكب مكفّرًا من عقد أو قول أو فعل... أمّا تلمذته على أرسطو فلا تمنع من ذلك، فقد تتلمذ الأشعري على المعتزلة، كما خالف أرسطو أستاذه أفلاطون في كثير من المسائل... هذا وقد ذكر الفيلسوف صدر الدين الشيرازي أنّ أرسطو كان حكيمًا عابدًا موحّدًا قائلاً بحدوث العالم ودثوره... «5» وسبقهم إلى ذلك أصحاب التفسير بالمأثور:

 

جاء في تفسير مقاتل بن سليمان البلخي (ت 150): (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) «6» يعني: الإسكندر قيصر! ويسمّى الملك القابض على قاف، وهو جبل محيط بالعالم.

 

وذو القرنين، لأنّه أتى قرني الشمس: المشرق والمغرب... «7» وفي تفسير أبي جعفر الطبري (ت 310): «كان شابًا من الروم، فجاء وبنى مدينة الإسكندريّة»! «8» وفي تفسير الماوردي أبي الحسن علي بن محمّد البصري (ت 450): «قال معاذ بن جبل: كان روميًّا اسمه الإسكندروس. قال ابن هشام: هو الإسكندر، وهو الذي بنى الإسكندرية». «9» وأخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر عن قتادة: الإسكندر هو ذو القرنين.

 

وعن وهب بن منبّه: كان ذو القرنين رجلاً من الروم. وكان اسمه الإسكندر. وإنّما سمّي ذا القرنين، لأنّ صفحتي رأسه كانتا من نحاس! وأخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر عن السدّي والحسن: كان أنف الإسكندر ثلاثة أذرع. وعن عبيد بن يعلى: كان له قرنان صغيران تواريهما العمامة! «10»

 

وللحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي (ت 774) هنا محاولة غريبة: «11» عمد إلى الجمع بين الروايات المختلفة بشأن الإسكندر، وأنّه شخصان، هو في أحدهما روميّ، وفي الآخر يونانيّ مقدونيّ.

 

أخرج بإسناده إلى إسحاق بن بشر عن سعيد بن بشير عن قتادة، قال: إسكندر هو ذو القرنين، وأبوه أوّل القياصرة، وكان من ولد سام بن نوح.

 

فأمّا ذو القرنين الثاني فهو إسكندر بن فيلبس من ذريّة إسحاق. قال: كذا نسبه ابن عساكر في تاريخه، المقدوني اليوناني المصري باني الإسكندريّة، وكان متأخّرًا عن الأوّل بدهر طويل. كان هذا قبل المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة. وكان أرسطاطاليس الفيلسوف وزيره، وهو الذي قتل دارا وأذلّ ملوك الفرس وأوطأ أرضهم.

 

قال: وإنّما نبّهنا عليه لأنّ كثيرًا من الناس يعتقد أنّهما واحد، وأنّ المذكور في القرآن هو الذي كان أرسطاطاليس وزيره، فيقع بسبب ذلك في خطأ كبير وفساد عريض طويل كثير!! فإنّ الأوّل كان عبدًا مؤمنًا صالحًا وملكًا عادلاً وكان وزيره الخضر، وقد كان نبيًّا على ما قرّرناه قبل... وزاد في التفسير: أنّه طاف بالبيت مع إبراهيم الخليل وأوّل ما بناه وآمن به واتبعه.

 

وأمّا الثاني فكان مشركًا وكان وزيره فيلسوفًا، وقد كان بين زمانيهما أزيد من ألفي سنة، فأين هذا من هذا، لا يستويان ولا يشتبهان إلّا على غبيّ لا يعرف حقائق الأمور!! «12»

 

ولعلّك أيّها القارئ النبيه، في غنى عن التدليل على مواضع الضعف من هذه الأوهام والتي هي أشبه بالخيال من الحقيقة! فإنّ التناقض والتهافت فيما تلوناه عليك بادٍ بعيان من غير حاجة إلى البيان.

 

وللدكتور عبد العليم عبد الرحمن خضر تفصيل وتبيين عن مواضع الإسكندر المقدوني، والتي لا تدع مجالًا لاحتمال كونه ذا القرنين المذكور في القرآن، ولا احتمال أن يكون هناك إسكندران: روميّ ويونانيّ - كما حسبه البعض - لأنّ القضية تعود إلى وثائق التاريخ وليس هناك عبث في الكلام... «13».

 

ومن المعاصرين، ذهب الأستاذ محمد جمال الدين القاسمي (ت 1322 هـ) إلى أنّ ذا القرنين الذي جاء ذكره في القرآن، هو الإسكندر الكبير المقدوني. «14».

 

يقول: اتّفق المحقّقون على أنّ اسمه (ذا القرنين) الإسكندر الأكبر ابن فيلبس باني الإسكندريّة بتسعمائة وأربعة وخمسين سنة (954) قبل الهجرة، وثلاثمائة واثنين وثلاثين (332) سنة قبل ميلاد المسيح عليه السّلام.

 

وردّ على ابن القيّم ابن الجوزيّة في زعمه: أنّه سبق هذا الإسكندر بقرون كثيرة... قال ابن قيّم - في كتابه «إغاثة اللهفان» في الكلام على الفلاسفة -: ومن ملوكهم الإسكندر المقدونيّ وهو ابن فيلبس، وليس بالإسكندر ذي القرنين الذي قصّ اللّه تعالى نبأه في القرآن، بل بينهما قرون كثيرة، وبينهما في الدين أعظم تباين. فذو القرنين - في القرآن - كان رجلًا صالحًا موحّدًا للّه تعالى، يؤمن باللّه تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وكان يغزو عبّاد الأصنام، وبلغ مشارق الأرض ومغاربها، وبنى السدّ بين الناس وبين يأجوج ومأجوج. وأمّا هذا المقدونيّ فكان مشركًا يعبد الأصنام هو وأهل مملكته. وكان بينه وبين المسيح نحو ألف وستّمائة سنة (!!). «15».

 

والنصارى تؤرّخ له. وكان أرسطاطاليس وزيره وكان مشركًا يعبد الأصنام... وهنا يأتي القاسمي ليردّ عليه قائلًا: إنّ المرجع هم أئمّة التاريخ، وقد أطبقوا على أنّه (أي ذو القرنين) هو الإسكندر الأكبر ابن فيلبس باني الإسكندرية. وقد أصبح ذلك من الأوّليّات عند علماء الجغرافيا.

 

... وأمّا ما جاء في وصفه في القرآن، فلعلّه لخصال حسان لا تمسّ جانب عبادته للأوثان... بل لعلّه من المحتمل أنّه خالف شعبه وتبع أستاذه في التوحيد، كما قيل. «16». وهكذا ذكر الأستاذ محمد فريد وجدي: لا ينافي أن يكون المقصود بذي القرنين هو الإسكندر المقدوني، على ما كان فيه من الشذوذ في بعض الأمور. «17».

 

هذا وإنّا لنستغرب صدور مثل هذا الكلام من مثل القاسمي والوجدي وقد عاشا القرن العشرين ودرسا أساليب النقد التاريخي الصحيح، وعرفا من الإسكندر المقدوني ذلك الطاغية الذي عاش حياته القصيرة في الترف والزهو وقد أبطرته النعمة وأطغته العظمة، فعلا في الأرض واستكبر وأفسد فيها وأهلك الحرث والنسل وحاول إبادة الحضارات والثقافات وأصول الديانات وأحرق المكتبات، وانهمك على اللذّات واللهو العارم، فأنشأ لنفسه سرايا على نسق ملوك الشرق المبطرين، وأحاط نفسه بالندمان وأهل الخلاعة، وتغلغل في متاهات الغلوّ، حتّى ادّعى أنّه هو وحده يرجع إليه الفضل في تلك الفتوحات. ثمّ تنمّر حتى ادّعى أنّه ابن الإله «جوبة» ودعا إلى عبادته. «18».ـ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الأخبار الطوال ، ص 37 .

(2) التنبيه والإشراف ، ص 100 (ط دار الصاوي ، القاهرة ، 1357 ه / 1938 م) .

(3) التفسير الكبير ، ج 21 ، ص 163 - 165.

(4) تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان ، بهامش جامع البيان ، ج 16 ، ص 18.

(5) روح المعاني ، ج 16 ، ص 28.

(6) الكهف 18 : 83.

(7) تفسير مقاتل بن سليمان ، ج 2 ، ص 599.

(8) جامع البيان ، ج 16 ، ص 7.

(9) تفسير الماوردي ( النكت والعيون ) ، ج 3 ، ص 337.

(10) الدرّ المنثور ، ج 5 ، ص 438 - 439.

(11) على غرار ما سبق عن زميله ابن قيّم ابن الجوزيّة ( ت 751 ه ) ، هما رضيعا ثدي واحد ( تلميذا ابن تيميّة ) وكان هائما في تخيّلاته ، وهكذا أثّر على أعقابه وأتباعه!

(12) البداية والنهاية ، ج 2 ، ص 105 - 106 ؛ وراجع تفسيره أيضًا ، ج 3 ، ص 100.

(13) راجع ما كتبه بهذا الشأن ، في كتابه القيّم « مفاهيم جغرافيّة في القصص القرآني » ، ص 50 - 130 . فإنّه جيّد دقيق!

(14) تفسير القاسمي ، ج 5 ، ص 54.

(15) لقد اشتبه الأمر عليه كثير ، إذ الإسكندر المقدوني كان قبل المسيح بثلاثمائة وثلاث وثلاثين سنة . نعم ذكروا أنّ الفصل الزماني بين ذي القرنين الذي جاء ذكره في القرآن والذي كان على عهد إبراهيم الخليل - حسبما زعموا - هو نحو هذا العدد ( 1600 سنة )!

(16) تفسير القاسمي ، ج 5 ، ص 58.

(17) دائرة معارف القرن العشرين ، ج 1 ، ص 325.

(18) راجع : البحر الزاخر ، في تاريخ العالم وأخبار الأوائل والأواخر لمحمود فهمي المهندس ، ج 2 ، ص 136 - 137 و 150 - 151 . ( محمد خير رمضان ، ص 146 - 147 ).

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد