مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
حيدر حب الله
عن الكاتب :
ولد عام 1973م في مدينة صور بجنوب لبنان، درس المقدّمات والسطوح على مجموعة من الأساتذة المعروفين في مدينة صور (المدرسة الدينية). ثم سافر إلى الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية لإكمال دراساته الحوزويّة العليا، فحضر أبحاث الخارج في الفقه والأصول عند كبار آيات الله والمرجعيات الدينية. عام 2002م، التحق بقسم دراسات الماجستير في علوم القرآن والحديث في كلّية أصول الدين في إيران، وحصل على درجة الماجستير، ثم أخذ ماجستير في علوم الشريعة (الفقه وأصول الفقه الإسلامي) من جامعة المصطفى العالميّة في إيران (الحوزة العلمية في قم). من مؤلفاته: علم الكلام المعاصر، قراءة تاريخية منهجيّة، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حجية الحديث، إضاءات في الفكر والدين والاجتماع (خمسة أجزاء) ...

كيف نستفيد من عاشوراء؟ (3)

المفهوم الثامن:

 

مفهوم إنسانيّة الدين وإنسانيّة الحرب، وهو المفهوم الذي تجلّى في غير موقع في المسيرة الحسينية، في ثقافة العفو وقبول التوبة مع الرياحي، وفي ثقافة الماء وتوزيعه على الأعداء، في مقابل الثقافة غير الإنسانية التي انتهجها الخصوم، وهنا يمكن التركيز على تأثيرات الثقافة الإنسانية في الدين من خلال تأثيرها في الحرّ بن يزيد الرياحي وغيره.

 

إنّ لغة الحسين ولغة خصومه هي لغة الإنسان ولغة الوحش القابع في النفس الإنسانيّة، فأيّ مراجعة للنصوص من كلا الطرفين سوف تعطينا هذا الأمر، وقد جاء في الحديث عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام مخاطباً عمار بن أبي الأحوص: «أما علمت أنّ إمارة بني أمية كانت بالسيف والعسف والجور، وإنّ إمارتنا بالرفق والتألّف والوقار والتقية وحسن الخلطة والورع والاجتهاد، فرغّبوا الناس في دينكم وفيما أنتم عليه» (الخصال: 354 ـ 355).

 

كم نحن بحاجة اليوم لما بات يسمّى بـ «إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين»، حيث بتنا نشهد تديّناً عدوانيّاً صدامياً لا يعرف الرحمة ولا الشفقة ولا المودّة ولا الرقّة، حريّ بنا أن نستخرج إنسانيّات الثورة الحسينية لنضيء عليها مقدّمةً لإحياء النزعة الإنسانيّة في حياتنا.

 

المفهوم التاسع:

 

مفهوم القيادة الصالحة، حيث أراد الحسين عليه السلام فضح زيف القيادة غير الصالحة ولو كان من حولها من ينسج لها التبريرات الدينية ويبايعها على السمع والطاعة. لقد رفض الحسين تبريراتهم، وقال لهم بأنّ مثل هذا الإنسان لا يمكن أن يتولّى منصب خلافة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.

 

حركة الحسين تفرض عليّ النظر في زماني، ففي هذا العصر أيضاً يزيدٌ وحسين، وذلك عندما أؤمن باستمراريّة المفاهيم التي بعثت ثورة الحسين، وعَليَّ أن أبحث عن يزيد لأواجهه وأرفضه، وعن الحسين لأنتمي إليه، فالحسين ليس تاريخاً فقط، بل هو واقعٌ إنساني مستمرّ في صراع البشر، وفي صراع الميول والقيم، ليس في السياسة والسلطة العسكرية والأمنية فحسب، بل في الاقتصاد، وفي الاجتماع، وفي حياتنا المدنية، وفي عيشنا الديني، توجد نماذج متنوّعة يزيدية وحسينيّة، وعندما أبكي الحسين فإنني أبكي واقعاً مؤلماً لتكون دمعتي شعلةً للتغيير نحو الأفضل، وإلا فسيكون من التناقض أن أبكي الحسين في التاريخ وأوالي يزيد العصر في الحاضر والمستقبل.

 

المفهوم العاشر:

 

مفهوم العقل المبدئي في مقابل العقل البراغماتي النفعي، لقد قلت يوماً الجملة التالية: «يوماً ما لم أفهم بعقلي البراغماتي (فقه المصلحة القائم على نظرية التزاحم) تصرّفات بعض الشخصيات الكبرى كالإمامين علي والحسين عليهما السلام، لكن عندما عايشت تجارب الانحراف الأخلاقي المجتمعي الذي يقع داخل الوسط الديني بحجّة المصلحة والضرورات، أدركت أنّ بعض الخطوات المنتفضة على الواقع والمتصادمة معه لا تحتاج لأن تكسب نتائجها المصلحيّة، بقدر ما يكفيها أن تهزّ الوجدان، وتخلق شعوراً بعدم الرضا عن الأنا الفردية والاجتماعية.

 

يجب أن لا يبقى الانحراف متنعّماً بسكينة باطنية ومتحرّراً من عذاب الضمير، هذه خطوة مهمّة للتغيير المستقبلي، حتى لو لم يقع التغيير أساساً في لحظتك» (إضاءات في الفكر والدين والاجتماع 2: 577). كثيرون عابوا ضعف السياسة عند الإمام علي والإمام الحسين عليهما السلام، لكنّني أجد أنّ الثبات على المبدأ ولو بطريقة حادّة، يظلّ ضرورة أحياناً لاسيما في المناخ الديني؛ لأنّ هيمنة الثقافة المصلحية التي توازن المصالح ـ ولست ضدّ فقه المصلحة من حيث المبدأ ـ قد يقدّم المبادئ يوماً ما قرابين على مذبحها، وهذه نقطة خطرة، فحركة علي والحسين هي حركة المبدأ حيث يحتاج إلى صدمة وإلى زوايا محدّدة كي يبقى في الذاكرة الجماعية وفي الضمير المدفون، مقابل حركة المصلحة التي قد تذيب كلّ شيء بزواياها المدوّرة لأجل حساباتها الخاصّة، ولو كانت حسابات ملوّنةٍ بالدين أحياناً.

 

أكتفي بهذا القدر؛ لأنّ الكلام طويل جدّاً، والفرصة غير مؤاتية، ولو أراد الإنسان أن يقف مع نصوص وكلمات هذه الحادثة ووقائعها واقعةً واقعة وكلمةً كلمة، لأمكنه أن يستخرج عدداً كبيراً من المفاهيم العمليّة والبنائيّة التي تجعل حياتنا حسينيةً بالمعنى الأفضل، فالحسين يُقرأ جزءاً من كلّ، لا يمكن أن تقرأه بعيداً عن العقيدة والشريعة والقيم والمفاهيم، هو ليس حدثاً مستقلاً عن المنظومة الدينية والأخلاقيّة، بل هو جوهرها وخلاصتها، فلابدّ من التفتيش عنها فيه.

 

لكنّني أشير في نهاية الكلام إلى نعمة الاجتماع والتواصل في عاشوراء، فهذه الحشود العظيمة التي تتلاقى كلّ يوم في المجالس والمراقد والحسينيات وفي كلّ مكان، هي بنفسها مظهر تواصل اجتماعي، كيف أستثمره؟ كيف يمكن لأهل البصيرة أن يستثمروا كلّ هذا الحشد الهائل للناس وكلّ هذا الاستعداد للسماع؟ من الصعب أن تجمع كلّ هذا العدد ليستمع في أيام معدودة، فكيف يمكنني أن أستفيد من هذا الاجتماع البشري مترامي الأطراف؟

 

إنّ عاشوراء فرصة لإيصال الرسائل، فلو يكون هناك مجلس عالمي أو وطني للخطباء الحسينيين أو غيرهم ممّن لهم نشاط في هذه الأيام، وتكون هناك خطط استراتيجية لتحديد الموضوعات والأولويات العامّة والمناطقيّة لتداولها، فستكون لدينا قدرة تأثير كبيرة جدّاً، لأنّ طاقة الاستماع عند الناس مضاعفة في هذه الأيّام.

 

عندما يتحدّث المئات من الخطباء في هذا البلد أو ذاك عن مشاكل هذا البلد السياسية أو الاجتماعية أو الأخلاقية وتتنوّع طرائق بيانهم وأساليبهم، فسيكون لذلك وقعٌ كبير. إنّ عاشوراء تقدّم لي مجاناً مجموعة كبيرة من الناس أتت باختيارها إليّ لتستمع بأذن صاغية، فكيف لي أن أستغلّ هذه الآذان لإيصال رسائلي التوعوية؟ وكيف لي أن أنبّه في هذه الأيام على مشاكل محدّدة ودقيقة وبشكل جماعي متنوّع ومدروس؟ هذه فرصة تاريخيّة سنويّة توفّرها عاشوراء ويمكن الاستفادة منها أيضاً لتداول مشاكل الأمّة خلال العام كلّه.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد