إنّ التاريخ يحدّثنا أنّ السلف الصالح لم يقتصر في الحجّ على المناسك والعبادة بل استغلّوا هذه المناسبة للعمل السياسي كجزء طبيعي من هذه الفريضة لا كشيء زائد عليها أو أجنبي عنها.
فها هو الإمام الحسين بن علي سبط الرسول وحفيده - صلوات اللَّه عليهم أجمعين - يحتجّ على حاكم جائر من حكّام زمانه في منى أيام الحجّ. فقد جمع عليه السَّلام بني هاشم ورجالهم ونساءهم ومواليهم من حجّ منهم ومن لم يحجّ ومن الأنصار من يعرفونه وأهل بيته، ثمّ لم يدع أحداً من أصحاب رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم ومن أبنائهم والتابعين ومن الأنصار المعروفين بالصلاح والنسك إلّا جمعهم، فاجتمع عليه بمنى أكثر من ألف رجل، والحسين عليه السَّلام في سرادقه، عامّتهم التابعون وأبناء الصحابة، فقام الحسين عليه السَّلام فيهم خطيباً فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثمّ قال:
«أمّا بعد، فإنّ هذا الطاغية قد صنع بنا ما قد علمتم ورأيتم وشهدتم وبلغكم، وإني أُريد أن أسألكم عن أشياء فإن صدقت فصدّقوني، وإن كذبت فكذّبوني، اسمعوا مقالتي واكتموا قولي ثمّ ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم من أمنتموه ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون فإنّي أخاف أن يندرس هذا الحقّ ويذهب، واللَّه متمّ نوره ولو كره الكافرون». «1»
فما ترك الحسين شيئاً أنزل اللَّه فيهم من القرآن إلّا قاله... وقال: «أُنشدكم باللَّه إلّا رجعتم وحدّثتم به من تثقون به». ثمّ نزل وتفرّق الناس على ذلك.
وها هو عثمان بن عفّان يكتب إلى جميع الأمصار الإسلامية أيّام خلافته كتاباً قال فيه: «إنّي آخذ عُمّالي – أي ولاتي - بموافاتي في كلّ موسم - أي موسم الحجّ - وقد سلّطت الأُمّة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يُرفَع عليّ شيء ولا على أحد من عُمّالي إلّا أعطيته، وليس لي ولا لعُمّالي حقٌّ قِبَل الرعية إلّا متروك لهم، وقد رفع إليّ أهل المدينة أن ّأقواماً يشتمون ويضربون فمن ادّعى شيئاً من ذلك فليواف الموسم – أي فليأت إلى الحجّ - يأخذ حقّه حيث كان منّي أو من عُمّالي، أو تصدّقوا إنّ اللَّه يجزي المتصدّقين». «2»
بل ووجد غير المسلمين فرصتهم في الحجّ ليعرضوا على الخليفة شكاواهم، فيقوم الخليفة بإنصافهم في زمن الحجّ لا بعدئذٍ، فكلّنا يعلم قصّة ابن القبطي الّذي سابق ابن والي مصر وفاتحها عمرو بن العاص فسبق القبطي فضربه ابن عمرو، فأنهى أبوه مظلمته إلى عمر فاقتصّ منه في موسم الحجّ على مرأى ومسمع من أُلوف الحجيج، ثمّ قال للوالي عمرو بن العاص كلمته أمام شهود المؤتمر الكبير: «يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أُمّهاتم أحراراً». «3»
وقد جاء في كتب الفريقين: أنّ هشام بن عبد الملك حجّ في خلافة أبيه وطاف بالبيت فأراد استلام الحجر فلم يقدر عليه من الزحام، فنصب له منبر فجلس عليه إذ أقبل عليّ بن الحسين عليمها السَّلام وعليه أزار ورداء، من أحسن النّاس وجهاً وأطيبهم رائحة وبين عينيه سجادة كأنّها ركبة عنز، فجعل يطوف بالبيت فإذا بلغ الحجر تنحّى عنه النّاس حتّى يستلمه هيبةً له وإجلالًا، فغاظ ذلك هشاماً فقال رجل من أهل الشام لهشام: من هذا الّذي قد هابه الناس هذه الهيبة وأفرجوا له عن الحجر؟ فقال هشام: لا أعرفه، لئلّا يرغب فيه أهل الشام فقال الفرزدق - وكان حاضراً - : لكنّي أعرفه، فقال الشامي: من هو يا أبا فراس؟ فأنشأ قصيدة نذكر بعض أبياتها هنا:
هذا الّذي تعرف البطحاء وطأته
هذا ابن خير عباد اللَّه كلّهم
هذا الّذي أحمد المختار والده
والبيت يعرفه والحلُّ والحرمُ
هذا التقيّ النقيّ الطاهر العلمُ
صلّى عليه إلهي ما جرى القلمُ
إلى أن قال:
فجدّه في قريش في أرومتها
بدرٌ له شاهدٌ والشِّعب من أُحد
وخيبر وحنين يشهدان له
مُحمدٌ وعليٌّ بعده عَلَمُ
والخندقان ويوم الفتح قد عُلِمُوا
وفي قريظة يومٌ صيلمٌ قتمُ «4»
وهكذا نجد هذا الشاعر الإسلامي الكبير يجابه ذلك الخليفة الجائر بهذه القصيدة الحماسية ويعرّف بالإمام الحقّ من آل الرسول في مواجهة سياسية حامية، الأمر الذي يدلّ على شرعية هذا العمل في موسم الحجّ وجوازه لعدم إنكار أحد من المسلمين عليه، لا آنذاك ولا بعدئذٍ.
وبعبارة أُخرى: إنّه يستغلّ تلك المناظرة السياسية القوية ليُعرّف الإمام أمام جموع الحجيج الوافدة إلى بيت اللَّه الحرام، باعتباره وارثاً محقّاً لآل رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم وهذه الحادثة تعطينا الدليل الناصع على أنّ العمل السياسي في موسم الحجّ يعتبر قانونياً وشرعياً، وذلك لأنّه لم يتمّ منع أو تحريم أداء مثل هذه الممارسات سواء في تلك الأيام أو الأعوام التي أعقبت ذلك.
ويجدر هنا أن نشير إلى ما كتبه الكاتب الإسلامي المعاصر فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه القيّم «العبادة في الإسلام» في هذا الصدد: «عرف الخلفاء قيمة هذا الموسم العالمي، فجعلوا منه ساحة لقاء بينهم وبين أبناء الشعب القادمين من كلّ فجّ عميق، وبينهم وبين ولاتهم في الأقاليم، فمن كانت له من الناس مَظْلمة أو شكاية فليتقدّم بها إلى الخليفة ذاته بلا وساطة ولا حجاب، وهناك يواجه الشعبُ الوالي أمام الخليفة بلا تهيّب ولا تحفّظ، فيغاث الملهوف وينصف المظلوم ويردّ الحقّ إلى أهله، ولو كان هذا الحق ّعند الوالي أو الخليفة». «5»
فإذا كان الحجّ موسماً لبيان الظلامات والشكاوى من الحكّام والولاة المسلمين، أفلا يكون من الأولى أن يجوز فيه الشكوى من الاستعمار وأذنابه وعملائه، واستنصار المسلمين عليهم؟ وهل يجوز أن نشكو الوالي إذا تعدّى حدوده، ولا يجوز أن نشكو المستعمر الظالم والأجنبيّ الغازيّ وهو يرتكب كلّ تلك الجرائم والمجازر؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) . الاحتجاج للطبرسي : 2 / 87 - 88 ؛ كتاب سليم بن قيس : 183.
(2) . راجع العبادة في الإسلام : للدكتور يوسف القرضاوي.
(3) . راجع المصدر السابق ، وكذلك كتاب « ماذا خسر العالم الإسلامي » لأبي الحسن الندوي نقلًا عن تاريخ ابن الجوزي.
(4) . الأغاني : 21 / 376 طبعة بيروت ، ومناقب ابن شهرآشوب : 4 / 169 وقد نقلت هذه القضية في كثير من الكتب التاريخية والأدبية لاحظ البيان والتبيين والعقد الفريد ومطالب السؤول ، وتذكرة الخواص ، ونور الأبصار.
(5) . العبادة في الإسلام : 293.
الشيخ محمد مهدي النراقي
الشيخ باقر القرشي
الشيخ محمد الريشهري
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ محمد مهدي الآصفي
عدنان الحاجي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد عباس نور الدين
الشيخ محمد صنقور
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
عبدالله طاهر المعيبد
حبيب المعاتيق
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
الإمام الباقر عليه السلام: هكذا تكون سعيداً
الحج وإيجاد الإنسان
بين يديّ الإمام الباقر عليه السّلام
زكي السّالم: كيف تصبح متملّقًا في تسع دقائق ونصف؟
ما جرى على البيت الحرام في تاريخ الإسلام
الحج ووحدة المسلمين وإيقاظهم
الحج دعوة وتلبية (1)
الإمام الجواد: شباب في مهبّ السّموم
(ملمس الظّلّ) جديد الشّاعر حسن المبارك
منتدى الينابيع الهجريّة يحتفي بثلاثة من شعرائه